الأحد، 23 نوفمبر 2014

قصيدة "وطاوي ثلاث" أو "أيا أَبَتِ إذبحني!": دراسة وتحليل.

قصيدة "وطاوي ثلاث" أو "أيا أَبَتِ إذبحني!": دراسة وتحليل.
حياة الحطيئة:
اسمه جرول بن أوس بن جُوَيَّةَ بن مخزوم بن مالك، كنيته أبو مليكة (نسبة إلى ابنته مليكة)، ولقبه الحطيئة، لقصره وذمامته وقربه من الأرض. وهو من بني عبس، من مضر، لا نعرف تاريخ ميلاده، ولكنه ولد في الجاهلية، من أمة اسمها الضراء. وكان له إخوة من أبيه، لم يعترفوا به. لذلك حاول الالتحاق بأهل امرأة أبيه، فنبذوه. فهجاهم كما هجا إخوته.
نعرف أن الحطيئة كان فقيرا منذ صغره، وأنه كان يعيش من عمله، أو بما يكرم عليه المحسنون.
بدأ ينظم الشعر وهو فتى. ويقال إن أول شعره كان في الهجاء، لسوء حاله، وتَنًدُّر الناس بذمامته، ونفورهم من قبحه. وقد استند إلى الهجاء متكسبا فكان يعطيه كلُّ من يخشى أذى لسانه.
ولعل مما زاد سوء طباعه، التي ولدها الفقر والتشرد، زواجه. فقد تزوج ورزق أبناء، فكان من أكثر الناس حدبا على عائلته. ولكن التناقض بين حبه ذويه، وشدة حاجته وفقره، وجوع أهله المزمن، وألمه المبرح لرؤيتهم يتضورون جوعا، هذا التناقض كان يولد فيه شراسة الطبع، وروح الاستغلال والابتزاز، فأفرغ كل ما في نفسه من نقمة على واقعه، وعلى المنعمين، هجاء لاذعا، لم تسلم منه أمه، وامرأته، ولا هو نفسه.
قيل: استيقظ ذات صباح متكدر المزاج، منحرف الطبع، فجعل يدور في المكان لا يلوي على شيء، ولا يعرف ما يريد، حتى طالعه وجهه في صفحة ماء، فاشمأز من صورته، وقال: [الطويل]
أَبَتْ شَفَتَايَ اليومَ إلاَّ تَكَلَُّمَا
أَرَى لِي وَجْهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ


بِشَرًّ فما أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهْ
فَقُبَّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبَّحَ حَامِلُهْ

   وهجا أمه فقال: (الوافر).
جزاك الله شرا من عجوز
تنحي فاجلسي منا بعيدا
أغربالا إذا استودعت سرا
ألم أوضح لك البغضاء مني
حياتك ما علمت حياة سوء

 

ولقاك العقوق من البنينا
أراح الله منك العالمينا
وكانونا على المتحدثينا
ولكن لا إخالك تعقلينا
وموتك قد يسر الصالحينا


وقال يهجو أباه وعمه وخاله: (الوافر).
لحاك الله ثم لحاك حقا
فنعم الشيخ أنت على المخازي
جمعتَ -اللؤم- لاحياك ربي-!


أبا، ولحاك من عم وخال
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وأبواب السفاهة والضلال

وقد هجا أيضا أخويه وهجا قومه وهجا كثيرا من الناس، إلا أن  رأس هجائه وأكثره سيرورة ما قاله في الزبرقان بن بدر ويناضل عن بغيض وإخوته، خاصة عندما يقول: (البسيط)
دع المكارم لا ترحل لبغيتها


واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

استعدى عليه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا أمير المؤمنين إنه هجاني. قال عمر: أنشدني الذي هجاك؟ فأنشده الزبرقان قول الحطيئة.
فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟ فقال الزبرقان: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! اجعل بيني وبينه حسان بن ثابت.
فبعث عمر إلى حسان، فلما أتاه أنشده قول الحطيئة، فقال حسان: يا أمير المؤمنين، ما هجاه ولكن سلح عليه.
واللافت أن الحطيئة حين حضرته الوفاة، أوصى أن يحملوه على أتان، ويتركوه راكبا حتى يموت، لأن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط، فمات على الحال التي أراد.


نص القصيدة:
وطاوي ثلاث عاصب ِالبطن مرملٍ
أخي جفوة فيه من الإنس وحشة
وتَفَرَّدَ في شِعْبٍ عجوزا إزاءها
حفاة عراة ما اغتذوا خبز مَلَّةٍ
رأى شبحا وسط الظلام فراعه
فقال ابنه لما رآه بِحَيْرَةٍ
ولا تعتذر بالعدم عَلَّ الذي طرا
فروى قليلا ثم أحجم برهة
وقال: هيا رباه ضيف ولا قرى!
فبيناهما عنت على البعد عانة
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها
فأمهلها حتى تروت عطاشها
فخرت نحوص ذات جحش سمينة
فيا بشره إذ جرها نحو أهله
فباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم
وبات أبوهم من بشاشته أبا



ببيداءَ لم يعرف بها ساكنٌ رسمَا
يرى البؤس من شراسته تُعمى
ثلاثة أشباح تخالُهُمُ بهما
ولا عرفوا للبر مذ خلقوا، طعما
فلما بدا ضيفا تَسَوَّرَ واهتمَّا
أيا أبت اذبحني ويسر له طعما
يظن لنا مالا فيوسعنا ذما
وإن هو لم يذبح فتاه فقد هَمَّا
بحقك لا تحرمه تا الليلة اللحما
قد انتظمت من خلف مِسْحَلِهَا نظما
على أنه منها إلى دمها أظما
فأرسل فيها من كنانته سهما
قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما
ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمى
فلم يغرموا غرما وقد غنموا غنما
لضيفهم والأم من بشرها أما


توثيق النص:
ذكره جولد تسيهير في نهاية ديوان الحطيئة الذي نشره له سنة 1891، ضمن النصوص التي غابت عن مخطوطات الديوان. كما أثبته افرام البستاني في أحد أعداد "الروائع" الخاص بالحطيئة. كما أشار إليه محقق الديوان نعمان محمد أمين طه ضمن المقطعات التي نشرتها للشاعر كتب الأدب واللغة، وغيرها (الطبعة الأولى سنة 1987 مصر) ص- ص 336-338.
يشير الذين حققوا ديوان الحطيئة إلى ظاهرة الاختلاف في رواية هذه القصيدة، ويمكن إجمالها فيما يأتي:
1- سقط البيتان الرابع والتاسع من هذه القصيدة في كل من نشرة جولد تسيهير للديوان، ومن نشرة دار صادر له كذلك أسقطهما نعمان طه في نشرته الجديدة للديوان التي صدرت عن مكتبة الخانجي عام 1987م. وأشار إليهما في الهامش.
2- ورد البيت الخامس في نشرة الشنقيطي قبل البيتين السادس والسابع، والبيت الخامس عشر بعد البيت السادس عشر.
3- هناك اختلاف في رواية بعض مفردات هذه القصيدة وفي نشرات الديوان المختلفة، ونشير إلى هذه الاختلافات كالآتي:
بيداء ¬ تيهاء
تفرد ¬ أفرد
بدا ¬ رأى
تسور ¬ تصور
فروى¬ تروى
فبيناهما  ¬فبيناهم
عطاشا ¬ ظماء
على أنه ¬ إلا أنه
سمينة ¬ فتية
إذ جرها ¬ إن جرها
أهله ¬ قومه
تحليل النص:
توطئة:
يجمع النقاد على أن القصيدة الجاهلية قصيدة مؤسِّسة، ليس لأنها دشنت رحلة طويلة من تاريخ الشعر العربي فحسب، بل لأنها جاءت مكتملة الصوغ، ناضجة التصور، فلا جرم كانت معينا معطاء أرفدت التجربة الشعرية العربية بعد ذلك، وبثت في شرايينها دفقة من المشاعر والأحاسيس الموصولة بالقيم والعادات والتقاليد، والعاكسة لحسن الإنصات إلى نبض الحياة وإيقاع الحوادث المتلاحقة. دع عنك أن منزع التقعيد وجد بغيته من استخلاص معايير الجمال ومقاييس الجودة والرداءة، وصياغة ما يسمى بعمود الشعر، في النماذج الشعرية الأولى، التي يعد النص الذي بين أيدينا واحدا منها.
معمارية النص:
يجد الشاعر نفسه مجبرا على ولوج تفاصيل سردية مشوقة، ضاربا الصفح عن المقدمات المألوفة، ربما لإحساسه بتجافي المقام عنها، ولا أدل على ذلك من الكلمة الأولى في المطلع التي جاءت قوية، مشحونة بمعاني تجتذب الانتباه (وطاوي)؛ والطاوي هو من بات دون  أن يأكل، (ثلاث) أي أنه لم يأكل لثلاث ليال. وعليه، يمكن أن نصنف الوقفات الدلالية في هذا النص إلى الآتي:
الوقفة الأولى: من البيت 1 إلى البيت 4، وتبرز فيها الحالة النفسية الحرجة لبدوي معدم قابع مع زوجه وأبنائه الثلاثة المهزولين الجائعين في مفازة جرداء حيث الوحشة والاغتراب.
الوقفة الثانية: من البيت 5 إلى البيت 9، وتكشف عن تأزم حالة هذا البدوي وأهله وتعقدها بحلول الضيف المباغث وإحساسه بثقل الأمانة التي حملها الأجداد وورَّثوها للأبناء، وهي مبدأ إكرام الضيف، ثم إبراز الموقف الشهم للابن الذي أوصى أباه بعدم الاعتذار بالعدم والعوز والحاجة وقدم  نفسه فداء للضيف.
الوقفة الثالثة: من البيت 10 إلى البيت 13، وفيها تصوير لحظة الانفراج عندما لاحت أتان وحشية تتجه شطر الماء فأمهلها حتى ارتوت، ثم سدد لها سهما قاتلا، وكانت سمينة موفية بالقصد النبيل.
الوقفة الرابعة: من البيت 14 إلى البيت 16، يرسم فيها الشاعر صورة لحالة النشوة والانتصار التي عاشها بيت البدوي الجواد حين تحقق الرجاء، وظلوا على العهد من الوفاء لمبدإ الإكرام وقرى الضيف الذي لاح على حين غرة.


إيقاع النص:
الشعر والإيقاع وجهان لعملة واحدة، ذلك أن الإيقاع شكل على الدوام علامة مميزة للقول الشعري، ومن دون هذه العلامة يتحلل القول من شعريته وينخرط في سياق الكلام العادي، وحتى حينما تتمرد القصيدة على الإيقاع الوزني (على أنه أعظم أركان الشعر) كما هو الشأن في قصيدة النثر مثلا، فإنها تظل محافظة على إيقاع الكلم وإيقاع الحروف.
وبالنظر إلى ميمية الحطيئة نجد تفاصيلها الوزنية تحكي عن بحر شاع وذاع، فكان له القدح المعلى من الرواج والانتشار. ويبدو أنه الأنسب لاستيعاب النفس القصصي الذي يسري في الميمية، ويطبع تحولاتها المتسارعة والمفاجئة، أحيانا، فضلا عن إسهامه في الكشف عن اقتدار الشاعر ورسوخ قدمه في الوصف وتعقب جزئيات الحدث، إنها أعاريض الطويل، التي قال عنها عبد الله الطيب:
"ولما كان بحر الطويل رحيب الصدر طويل النفس فإن العرب قد وجدت فيه مجالا أوسع للتفصيل مما كانت تجد في غيره من الأوزان، ولهذا فقد كان أصلح من غيره لتسجيل الأخبار والأساطير، وربما اتفق لشاعر فيه أن يذكر أهم معالم القصة".
وتتبدى من خلال التقطيع الآتي:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
وطاوي ثلاثن عاصب لبطن مرملن
//0/0  //0/0/0 // 0/0  //0//0
فعولن  مفاعيلن  فعولن مفاعلن


ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
ببيداء لم يعرف بها ساكنن رسما
//0/0  //0/0/0 //0/0 //0/0/0
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن


                                              ß 
 (فيه قبض = حذف الخامس الساكن) .
القافية والروي:
ظلت القافية – في عرف النقاد – ملازمة للوزن، تشاركه في الاختصاص بالشعر كما يرى ابن رشيق، وأهميتها هذه مستمدة من كونها عنصرا بانيا للإيقاع، ولموسيقى الشعر من جهة ما تحدثه من نغم يتوقع المتلقي تكراره عند نهاية كل بيت.
أما القافية في هذه القصيدة فنستجليها من خلال بعض الأبيات، كما يأتي:
البيت 1: رسما
البيت 2: نعمى
البيت 4: تَمَّا (تَّمْمَا).
تشف قوافي النص عن مراوحتها بين كلمة وبعض كلمة، وعن كونها مطلقة (رويها متحرك)، أما الميم فمشفوعة بألف الإطلاق (رسما- نعمى – ذما...).
من هنا، نستنتج أن روي القصيدة وهو الميم المتحرك والموصول بألف الإطلاق جاء مساوقا للحالة النفسية التي استبدت بالشاعر في لحظات الأزمة والفرج، فترجح بين الحزن والإحباط حينما عنَّ له ضيف في جنح الظلام وهو غير قادر على الاستجابة لإملاءات اللحظة والقيام بواجبات الضيافة العربية، وبين الفرح والنشوة والبشر حينما استطاع أخيرا أن يكون جديرا بقيمة من أبرز القيم الراسخة في وجدان العربي.
واللافت أن حرف الميم هو حرف وثيق الصلة بالعواطف المشبوبة، وتم إتباع هذا الحرف بالألف لاستطالة الآهات ونبرات الأسى لحظة الأزمة والعتمة والمفاجأة غير السارة، ولترجمة أصداء الفرح والفرج أيضا لحظة اصطياد الأتان وإزاحة الكابوس الجاثم على الصدور والخانق للأنفاس.
الإيقاع الصوتي:
وهو إيقاع يتغيى إحداث التوازن الصوتي وتقوية الطاقات النغمية الشعرية، علاوة على إسهامه في صنع الدلالة وبناء مساراتها داخل النص، وهذا ما يتبين من خلال إعمال بعض الأساليب، منها:
1- الطباق:
يُظهر افتحاص القصيدة، وجود الطباق وجودا مؤثرا، يضفي على النص مسحة من الجمال، ويعكس حالة التنازع والتجاذب في دخيلة البدوي، مثل استعذابه التيه والاغتراب بين المفازات الجرداء (يرى البؤس من شراسته نعمى)، فضلا عن توجس الابن من وصمة العار الموسومة بالبخل، خاصة من قبل الضيف الجاهل بحقيقتهم (لا تعتذر بالعدم- يظن لنا مالا)، بالإضافة إلى طباق يمثل قمة التردد والمجاذبة، وهو حالة الأب وقد هَمَّ بتقديم ابنه فداء وهو شعور يتنازعه الإحساس الأبوي والشعور بثقل الأمانة (قرى الضيف) (وإن لم يذبح فتاة فقد هما) .
تبوأ الكرم محلا رفيعا في سلم القيم الخلقية النبيلة، وأحيط بهالة من التعظيم والتقديس لدى العربي، ولا أدل على ذلك من تفكير البدوي الذي افتقد إلى الحيلة والوسيلة لإكرام الضيف في التضحية بابنه وبمشاعر الأبوة...، وكان رد فعل الابن أيضا هو الرضى والقبول بتقديم نفسه فداء للضيف، إذعانا لقيمة أنزلها العرب منزلة منيفة؛ إذ آمن بها الإنسان واحتفى بها النقد فأشاعها الشعراء في المدح والفخر، حتى صارت كاللازمة التي ترفع شأن الفرد والقبيلة أو تحطه.
وممن كان يضرب به المثل في البذل والعطاء، حاتم الطائي، الذي قال:
وإني لعبد الضيف مادام ثاويا
  

وما في إلا تلك من شيمة العبد

2- الترادف:
أغرق الشاعر في إِيراد المترادفات اللفظية أو السياقية، وكأن أحدا ينازعه القول ويطارحه في المقاصد، ما ينم عن رغبة الشاعر في التأكيد على أشياء معينة، ونسف كل المعوقات التي قد تقف في وجه اقتناع المتلقي، وقطع دابر التردد لديه في التسليم بحمولة الخطاب، فطفق يردد بعض المعاني إن في حال التوجس أو حال التأنس.
ففي حال التوجس ورصد تحركات الشخوص يرادف بين: (وطاوي ثلاث= عاصب البطن = مرمل)، (بيداء = لم يعرف بها ساكن رسما)، (أخي جفوة = فيه من الإنس وحشة)..
وفي حال التأنس واستشعار الانتشاء لحظة الفرج، يرادف بين: (عطاشا = تريد الماء)، (سمينة = اكتنزت لحما = طبقت شحما)، (بشاشة = بشرا)، (كراماً = قضوا حق ضيفهم)..


3- التكرار والجناس:
يعد التكرار والإعادة – حسب ابن فارس – من سنن العرب،  وهو أسلوب يشي بالعناية بالأمور، وقد عرفه ماهر مهدي هلال بقوله: "تناوب الألفاظ وإعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما موسيقيا يتقصده الناظم في شعره أو نثره".
يسعى الشاعر إلى الإرتفاع بهذا الأسلوب الفني عن الفجاجة والإملال، مع تأكيد حالة نفسية موصولة ببشر الأب وابتهاج أسرته بقضاء حق الضيافة (فيا بشره- يا بشرهم).
ويتقوى هذا المنزع حينما يعمد إلى صنعة التشاكل اللفظي المستفرغ في صيغة اشتقاقية كفيلة باستفزاز حاسة السمع لدى المتلقي، وبالنتيجة إثارة انتباهه من قبيل قوله: (عنت - عانة)، أو في صيغة مفاعيل مطلقة ترسخ الدلالة، مدعومة في ذلك "بقد" التحقيقية، وبقدرة الشاعر الواضحة على التصوير، ونعلم أن المفعول المطلق لا يكون إلا في القول الحقيقي (انتظمت - نظما).
واضح – إذا- مدى عناية الحطيئة بجرس ألفاظه، ونسقه للكلم على مقاسات صوتية متناغمة ومتجانسة، جعلت النص برمته يسير على وتيرة واحدة يحكمها التناسق والتلاؤم (دلاليا ونغميا، على ما يحمله بين طياته من تجربة مضطربة ورؤى قلقلة.
معجم النص:
يجنح الشاعر إلى تقديم خبرة حيوية (معيشة أو متخيلة) بهدف تقديم وجهة نظر تخص قيمة من قيم العرب المتجذرة، وقد حشد كل  ما من شأنه أن يسعفه في بلوغ هذا الهدف من تعابير ومشاعر ومواقف. ولكن السؤال الذي يلح علينا هو: هل هذا النص يمدح الكرم أو يقدح فيه؟
إن حقيقة الحطيئة بوصفه إنسانا تقول إنه أبخل بخلاء العرب وأشحهم، ولعل ذلك يؤثر في صياغة معجم النص والنمط القيمي المهيمن، ذلك أننا نعدم كل الإرهاصات والإشارات الدالة على كرم هذا البدوي المعدم كإيقاد النار ليستهدي بها الضيف ليلا، ونباح الكلاب، والفرح بقدوم الضيف؛ إذ من طباع العربي التهلل والإشراق والابتسام في وجه الضيوف، وغيرها، بل على العكس من ذلك، نسجل استغراق النص في المعجم الدال على العوز والفقر وعدم القدرة  على الوفاء بالالتزامات الخلقية تجاه الضيف: (وطاوي ثلاث – عاصب البطن – مرمل- بيداء – أخي جفوة –وحشة – البؤس – عجوز – اشباح – العدم – حفاة عراة – ما عرفوا البر...)، والمعجم الدال على الخوف والتوجس: (راعه – تسور – اهتما – حيرة – يوسعنا ذما – روى قليلا – هيا رباه ضيف ولا قرى...) .
ويتبين مما سبق أن ظروف الإكرام لم تكن مؤاتية، وأن البدوي ليس كريما، بل أجهد نفسه مخافة الهجاء والذم، ولكنه ينتهي إلى استعمال معجم دال على الفرح والبشر: (عنت عانة – إلى دمها أظما – يا بشره – يا بشرهم – باتوا كراما – قضوا حق ضيفهم – غنموا غنما – بشاشة – بشرها...). وكأني بالشاعر يريد أن يقدم للآخر متعة وجدانية وفكرية يعفي بها عن جو الكآبة والتكلف الذي استبد بالنص.
وصفوة القول، إن الشاعر قد جرد البدوى من كل الآيات الدالة على الكرم، وعلى رأسها التهلل والإشراق، مصداقا لقول زهير:
تراه إذا ما جئته متهللا


كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وقول حاتم الطائي:
أوقد فإن الليل ليل قر
عل يرى نارك من يمر
 

والريح علام ريح صر
إن جلبت ضيفا فأنت حر


ويبدو أن الشخصية الأنسب للشاعر في هذا النص هي شخصية الضيف وليست شخصية البدوي الفقير، ذلك أنه اعتاد هجاء من لم يكرمه، حتى وإن كان المستهدف معدما محتاجا.
البنية التركيبية للنص:
1- الأساليب النحوية:
إن قراءة أولية في الضمائر المهيمنة على النص توضح سيادة "الغائب" على نحو يتناسب والطابع القصصي للنص، الذي ينزع إلى البناء السردي لأحداث ولت وانتهت (لم يعرف بها- فيه من الإنس – يرى البؤس فيها – تفرد في شعب – تخالهم بهما- ما اغتذوا – ولا عرفوا – رأى شبحا – اهتما – فروى قليلا – فتاه- فبيناهم – انساب نحوها – كنانته- بشرهم – بشره – أهملها – عطاشها...).
وقد استفرغت هذه الأحداث في قالب نفسي يغلب عليه التشويق والترقب وانتظار النهاية السعيدة. أما ضميرا المخاطب والمتكلم فينحصران في قوله: (يسر له طعما- لا تعتذر بالعدم)، وقوله: (اذبحني – يظن لنا مالا – يوسعنا ذما)، ولم تكن لتستعمل لولا السياق الحواري الذي فرضها،  وهو مقوم من مقومات البنية القصصية.
وبصرف النظر إلى بنية الأفعال نسجل استحواذا لافتا للزمن الماضي المساوق لضمير الغياب، وضمور المضارع (يرى – يظن – يوسعنا – تريد..)، والأمر (اذبحني – يَسَّرْ)، ما يعلل انقباض النص إلى الحكي، وهي طريقة في التعبير الشعري آثرها القدماء وأحكموا استعمالها.
2- الأساليب البلاغية:
2-1- الخبر والإنشاء.
يستبد طابع الإخبار بميمية الحطيئة، وتفسير ذلك سيادة أسلوب الحكي والقص، والذي يمكن استجلاؤه من خلال العناصر الآتية:
1- الزمن (الليل)
2- المكان (البيداء ¬ مكان مقفر).
3- الحدث (مجيء ضيف على حين غرة).
4- العقدة (افتقار العربي إلى ما يسد به رمق الضيف).
5- حل العقدة (ظهور الأتان المكتنزة).
6- شخصيات القصة (الأب – الابن – الزوجة – الضيف – الأبناء الأشباح).
7- الحوار: (فقال ابنه لما رآه بحيرة .. – وقال هيا رباه ضيف ولا قرى..).
في ضوء هذه المعطيات، تغدو عملية سرد الأحداث وفق منطق تسلسلي، وصوغها في جمل خبرية أمرا مسوغا، ولا تكاد الجمل الإنشائية تلوح في أفق النص إلا لماماً، من قبيل:
1- النداء: أيا أبَتِ...
2- الأمر: اذبحني – يسر له طعما.
3- النهي: لا تعتذر-
4- الدعاء: لا تحرمه
5- التعجب، يا بشره – يا بشرهم.
يبدو أن الأساليب الإنشائية كانت تستجيب لأدبيات الحوار وأعراف المقام التواصلي، فكان الشاعر يسعى – عبر تقنية السرد- إلى تعقب الأحداث ورصد التحولات والسجال الدائر حول المشكلة التي وقع فيها البدوي، فيناديه الابن ملتمسا منه ذبحه (وهذا يدخل في باب التضحية بالنفس والنفيس) لإكرام الضيف وتيسير ما يكفي من الطعام له، ثم يتجذر هذا المنحى بنهيه عن الاعتذار بالعوز والفاقة، ذلك أن العربي لم يكن يعتذر للضيف، بل يؤثره ويفضله على نفسه.
2-2- الحذف:
يقول عبد القاهر الجرجاني عن هذا المسلك التعبيري: "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن".
من هنا، نستشف أن الحذف حيلة أسلوبية فنية لا تتصل بالضرورة الشعرية بقدر ما تميل إلى الرغبة في عدم البوح بما قد يخدش المشاعر ويؤذيها، ويعمق الإحساس بالحرج،  فضلا عن محاولة الارتفاع عن الخطاب التقريري المباشر، وأكثر ما يتضح ذلك في تصوير معاناة الأب من الجوع ثلاث ليال (وطاوي ثلاث)،  وفي اللحظة الفاصلة والحاسمة التي عرض فيها الابن نفسه للذبح إكراما للضيف، وترقب الأب ودهشته (فروى قليلا... وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما).
2-3- الفصل والوصل:
تكتسي هذه الظاهرة أهمية كبرى في البلاغة، حتى قيل: "إن البلاغة هي معرفة الوصل من الفصل". إذا تأملنا أبيات النص وجدنا أن عددا منها يتصل بما قبله بوساطة حروف العطف (الواو والفاء)، وأن عددا آخر غير ذلك. فمن الجمل المتصلة بما قبلها: "وتفرد في شعب"، "ولا عرفوا للبر"، "فلما بدا ضيفا"، "فقال ابنه" "ولا تعتذر"، "فروى قليلا"، "وإن هو لم يذبح فتاه"، "وقال هي رباه"...
ومن الجمل المنفصلة: "أخي جفوة"، "حفاة عراة"، "رأى شبحا"، "عطاشا تريد الماء"...
ومهما يكن من أمر الاتصال أو الانفصال، فإن معاني الأبيات بقيت مترابطة متسلسلة يرتبط بعضها ببعض، ومن شأن الإخلال بعنصر من عناصرها أن يخل بالنظام الدلالي العام للقصيدة.
2-4- نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى:
أ- المساواة: وهي كما عرفها قدامة بن جعفر:"أن يكون اللفظ مساويا للمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه... [أي] ما كانت ألفاظه قوالب لمعانيه أي هي مساوية لها لا يفضل أحدهما على الآخر".
ونتبين هذا الأسلوب في قول الشاعر:

أيا أبت أذبحني ويسر له طعما

إذ نلاحظ أنه اختار ألفاظا تطابقت وتساوت مع المعنى المراد، وهي تجمع بين موقف الأب والابن في نسق مترادف إزاء الحالة المزرية التي انتهيا إليها، وما تستلزمه من بذل وتضحية.
ب- الإشارة: ويعرفها قدامة أيضا بقوله:"أن يكون اللفظ القليل مشتملا على معان كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدل عليها"، أو ما يصطلح عليه البعض باللمحة الدالة، وبيان هذا قوله:
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها



على أنه منها إلى دمها أظما

فكلمة "أظما" توحي بالحالة المتردية للبدوي، وتحمل في طياتها معاني الفقر والجوع والعطش والحزن والبؤس والسوداوية والرغبة الجامحة في الحصول على الأتان لدرأ الحرج الذي وقع فيه...
د- الإرداف: وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل اللفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع. ومثال ذلك قوله:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل


ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما

فعبارة "عاصب البطن" كناية عن فرط الجوع وشدته.
وإجمالا، فإن الشاعر قد عمد إلى توزيع استعمالاته لنعوت ائتلاف اللفظ والمعنى، فاصطفى منها أساليب المساواة والإشارة والإرداف، ما يفيد أنه متمكن من فنون البلاغة، عارف بأدبيات الكتابة الإبداعية، خاصة ما يجعل من الشعر شعرا وازنا وقويا.
3- الصورة الشعرية:
لا تنفك القصة عن الوصف والتصوير اللذين تنجذب إليهما النفوس وتميل إليهما، فالشاعر يطالعنا بقوله: (وطاوي ثلاث) لإثارة الانتباه وشد الأسماع، ثم لتصوير حالة بدوي بقي دون أكل لثلاثة أيام بمعية عائلته، فضلا عن أنه (عاصب البطن) كناية عن شدة الجوع، ففاجأهم حلول ضيف وهم يعدمون طعام القرى.
يدخل الشاعر- بعقب ذلك- في سلسلة ممتعة من الحوادث، مراوحا بين الأسلوبين الحكائي والحواري الموصولين بخيال خلاق، ليرسم صورة متناهية في الدقة لمكان قفر لا أثر فيه للرسوم أو بقايا الآثار الدالة على الساكنة.
ثم يصور البؤس أو "الجفوة" تصويرا يحولها من حيزها التجريدي إلى حيز حسي مرئي: (أخي جفوة)، ذلك أنه جعل الجفوة أخا وحبيبا للبدوي أملأ في ترسيخ صورة النفور والانزواء والتقوقع وشراسة الطبع، التي خيلت إليه البؤس نعمة، وهنا استعمل التشبيه.
وبصرف النظر إلى قوله: (وتفرد في شعب... ثلاثة أشباح تخالهم بهما)، نجد الشاعر يشبه العجوز (زوجته) وأبناءه بالأشباح، ووجه الشبه هو الهزال والضمور، والضعف والوهن الذي أصابهم من شدة الجوع.
ويزيد الشاعر من تعميق هذا الوضع المفجع، وإرخاء ظلال معتمة على هذه اللوحة المؤلمة بقوله: (حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة...).
لقد أفلح الحطيئة في تنسيق الصور، والتوليف بين تفاصيلها ودقائقها حتى كأنك أمام صورحية تتمرد على ثباتها.
والجدير بالإشارة أن الشاعر قد نهل من التراث الإنساني، إذ نجح في استحضار الأجواء النفسية لواقعة ذات عمق حضاري، وحاملة لخطاب ديني، يغذيها حرصه على إمهال الأتان حتى تروي عطاشها، (الأتان كانت بمثابة البديل أو (الكبش) الذي أنزله الله تعالى على سيدنا إبراهيم)، ما جعله يستوي في افق خلقي عال.
بيد أن صاحبنا لم يستطع أن يدخل في علاقة صراعية (تناص حواري) مع قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل، إذ عمل على استنساخ الحدث، على ما بينهما من بون شاسع، ذلك أن قصة سيدنا إبراهيم جاءت في سياق معين، وقد حسم الخطاب الشرعي فيه، ولم يعد هناك من مسوغ لإعادة إنتاج مثل هذا الموقف،  واسترجاعه بحذافيره، لئلا يخرج بصاحبه من مفهوم التضحية إلى مفهوم الانتحار أو أكل لحوم البشر.
واللافت أن النص أبى إلا أن ينتهي نهاية سعيدة، مؤثرا الحياة على الموت، حينما تدخلت الطبيعة لإنقاذ الموقف، متمثلة في الأتان الوحشية التي عنت فجأة، وصورها في صورة موفية بالغرض (سمينة – اكتنزت لحما- طبقت شحما).
خلاصات وتقويم:
يتميز فاعل الكرم في النص بالخصائص الآتية:
- جائع مرمل.
- مستوحش من الناس (كائن غير اجتماعي = عزلة نفسية).
- أهله يتضورون جوعا.
- حفاة عراة.
- يقطنون صحراء جرداء (عزلة مكانية).
- لا وجود لنباح الكلاب.
- غياب نار القرى التي تهدي السالكين والضيوف.
- لا يرحب بالضيف ولا يستبشر به (فزع حين رأى الشبح).
- الخوف من سخرية الضيف وذمه.
بهذا الفهم،  جاء النص ليصنع المفارقة، ويكشف عن مدى قسوة الأعراف المرتبطة بالكرم، والتي لا تنظر في أحوال المضيف، ولا تراعي ظروفه، بل تغرقه في السخرية وتزري به إن هو لم يستجب لها.
ولعل الحطيئة يريد أن يهزأ بآكلي اللحوم البشرية، وبقيم العرب، وهو المتهم في دينه والمعروف ببخله وثورته على التقاليد والأعراف. ولا أدل على قدحه في قيمة الكرم من جعله انفراج الأزمة يتم عن طريق المصادفة، ولا يد للأعرابي في ذلك. أضف إلى ذلك أنه جعل النص ساحة للدماء وما يستصحبها من موت وفناء تشمل الإنسان والحيوان معا (اقتراح الابن ذبحه (طوعا) + إلى دمها أظما+ فخرت نحوص+ رأوا كلمها يدمى)، علاوة على أن البدوي لم تأخذه رأفة ولا شفقة بوليد الأتان الذي فقد أمه وهي مصدر حياته (نحوص ذات جحش).
وملاك الأمر أن هذا النص لم يفض بعدُ بأسراره كاملة، ما يجعله في عوز إلى قراءات جديدة همها التساؤل والاستفهام والاستنطاق.