السبت، 2 يناير 2016

منهجية التأليف عند عبد القاهر الجرجاني

منهجية التأليف عند عبد القاهر الجرجاني

د. الحسين أيت مبارك
كلية اللغة العربية- مراكش
الأسرار: الوعي بمقتضيات المنهج والنكوص عن الالتزام بها.
يرى عبد القاهر "أن الذي يوجبه ظاهر الأمر، وما يسبق إليه الفكر أن يبدأ بجملة من القول في "الحقيقة" و"المجاز" ويتبع ذلك القول في "التشبيه" و"التمثيل"، ثم ينسق ذكر "الاستعارة" عليهما، ويؤتى بها في أثرهما، وذلك أن المجاز أعم من الاستعارة.
والواجب في قضايا المراتب أن يبدأ بالعام قبل الخاص و"التشبيه" كالأصل في الاستعارة وهي شبيه بالفرع له أو صورة مقتضبة من صوره"[1].
نستشف من هذا النص أن ثمة وعيا بالمنهج، ذلك أن تحديد الخطى والإيماء إلى ما ينبغي الابتداء به وما ينبغي تأخيره دليل صريح على ما نزعم، وإن لم يلتزم عبد القاهر بتلك الخطة لأن "ههنا أمورا اقتضت أن تقع البداية بالاستعارة"[2]، قبل أن يتجه بالشرح إلى الفصلين الآخرين. إلا أن عبد القاهر لم يبن تلك الأمور التي اقتضت أن تقع البداية بالاستعارة.
"دلائل الإعجاز" وإشكالية التبويب.
يجهر كتاب "الدلائل" بالتداخل بين أبوابه وفصوله، إذ ينعدم الوضوح في المنهجية، فينزع عبد القاهر إلى تكرار الكلام عن القضية ذاتها في مواضع متفرقة، لذلك "كان عمله وهو يؤسس هذا العلم الجديد، مشوبا بحمية جارفة لا تعرف الأناة في التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كان في عجلة من أمره، وكأن منازعا كان ينازعه عند كل فكرة يريد أن يجليها ببراعته وذكائه وسرعة لمحه، وبقوة حجته ومضاء رأيه" [3]أما عن تكرار التعاريف فخاصية نلمحها أيضا في الأسرار.
ولعل هذا التداخل هو ما دفع بالفخر الرازي وابن الزملكاني إلى أن يعيدا ترتيب كتابي عبد القاهر باعتساف ملحوظ، على نحو جعل ابن عميرة يرد على ابن الزملكاني ويسفه ما أفسده من كلام عبد القاهر.
تداخل المعارف سبيل إلى بيان أمر المعاني.
لما كان غرض عبد القاهر من الكلام أن يتوصل إلى بيان أمر المعاني[4]، وأعتقد أنه الغرض نفسه أيضا في "الدلائل" فإنه لا يسعنا إلا التسليم بانسجام الموضوعات مهما اختلفت حقولها المعرفية، إذ لأغلبها علاقة بأمر المعاني، ونسجل تداخل الأنساق المعرفية الآتية: البلاغة والنقد الأدبي وإعجاز القرآن والمنطق (الجدل وثنائية الادعاء والاعتراض في الدلائل كما سيتضح)، وعلم الكلام (الرد على أنصار اللفظ في الدلائل).
ونجنح فيما يأتي إلى تحديد التجليات المنهجية في كتابات عبد القاهر الجرجاني.
كانت رؤى وآراء بعض الدارسين توحي بفهم غير واضح لمفهوم "الادعاء"، ومنهم جابر عصفور من خلال كتابه "الصورة الفنية" الذي لا يعدو أن يعقل منه دلالة الزعم، مما حفز طه عبد الرحمان[5]، إلى محاولة تحديد هذا المفهوم في حقله المنطقي، ويجعل العمدة في تمثله أن نسلم بأن إنتاج عبد القاهر البلاغي يتميز بالخاصيتين المتعارضتين الآتيتين:
أولاهما: أنه إنتاج جدالي، والثانية: أنه إنتاج تأسيسي.
الجدال: لم يأل عبد القاهر جهدا في الاعتراض على مقولات بيانية مشهورة وفي دفع أساليب بديعية سائدة عند أسلافه من نقاد البلاغة؛ وخير دليل على ذلك كثرة دوران العبارات الجدلية على لسانه مثل: "إن قلتم... قلنا"، "فإن قيل... قيل"، "ما هو إلا كذا وكذا"، "كيف لا يكون كذلك مع أنه كذا وكذا".
التأسيس: فقد تولى عبد القاهر إنشاء مقولات وأدوات للنقد البلاغي لم يسبق إليها، واستحق بذلك أن يعد مؤسس علم البلاغة العربي.
ولما اجتمع لهذا الإنتاج وصف الجدال ووصف التأسيس، فقد جاء مشتملا على مبادئ تزاوج بين روح النقد والنزعة إلى التجديد، وكل صياغة لهذه المبادئ يجب أن تتوخى حفظ هذا التردد بين الطرفين؛ وحسبنا من هذه المبادئ ما يساعدنا على بيان خصائص الادعاء، وهو ما سنعرض له  لاحقا.
خاصية التفصيل والتقسيم: ينطلق عبد القاهر من الخاص (الاستعارة) نحو العام (التشبيه)، فيقسم الاستعارة إلى مفيدة وغير مفيدة، والتشبيه إلى نمط يحتاج فيه إلى تأول وآخر لا يحتاج فيه إلى تأول.
واللافت أن تعريفات عبد القاهر للاستعارة قد تعددت، وخاصة في "الأسرار" كأنه استشعر قصورا في تلك التعاريف، وقد تراوحت في الجملة بين اتجاهين أو مفهومين: الأول حينما عدها نوعا من أنواع المجاز القائم على النقل، وهو المفهوم الموروث عن  سابقيه، إذ ينتقل اللفظ من وضعه الحقيقي الذي هو أصل له، إلى وضع مجازي على سبيل التجوز والمسامحة، قال: "اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي معروف تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، ولينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية[6]".
والثاني: لما عدها متأثرا بنزعته الكلامية وثقافته المنطقية، قائمة على الادعاء، هذا المفهوم الذي ظل باهتا في الأسرار، وظهر بشكل جلي في "الدلائل".
وإذا تقرر في الاتجاه الأول أن الاستعارة نقل، ومرور من وضع لغوي حقيقي إلى آخر مجازي فإن هناك طريقين في النقل يختلفان باختلاف المقصود منهما، والذي مداره المشابهة.
ففي النوع الأول نجد اللفظ ينتقل من استعمال إلى آخر، ومن سياق إلى غيره بسبب الاتساع في اللغة، لا لعلة التشبيه، وهذا ما يسميه عبد القاهر بالاستعارة غير المفيدة، وهي عنده قصيرة الباع، قليلة الاتساع، وتكون فيما وضع للاتساع في اللغة، ويقوم النقل غير المفيد هذا على ألفاظ متشابهة المعاني، ولكن مراعية للفروق الدقيقة في اللغة، فتستعمل مكان بعضها تجاوزا ورغبة في التوسع اللغوي دون نظر إلى علاقة المشابهة المتعلقة بالمجاز الاستعاري، يقول عبد القاهر: "وموضع هذا الذي لا يفيد نقله، حيث يكون اختصاص الأسد بما وضع له من طريق أريد به التوسع في أوضاع اللغة، والتنوق في مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها، كوضعهم للعضو الواحد أسامي كثيرة بحسب اختلاف أجناس الحيوان، نحو وضع "الشفة" للإنسان، و"المشفر"، للبعير، و"الجحفلة" للفرس، وما شاكل ذلك من فروق ربما وجدت في غير لغة العرب وربما لم توجد، فإذا استعمل الشاعر شيئا منها في غير الجنس الذي وضع له، فقد استعاره منه ونقله عن أصله وجاز به موضعه"[7]،
أما في النوع الثاني فيكون نقل اللفظ من وضع لغوي إلى آخر لأجل التشبيه على سبيل الاستعارة المجازية، ويسمي الجرجاني هذا الضرب من النقل: الاستعارة المفيدة، فهي تفيد معنى وغرضا لازمين لها، "وجملة تلك الفائدة وذلك الغرض "التشبيه"... ومثاله قولنا: "رأيت أسدا"... ومعلوم أنك أفدت بهذه الاستعارة ما لولاها لم يحصل لك، وهو المبالغة في وصف المقصود بالشجاعة، وإيقاعك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وبأسه وشدته وسائر المعاني المركوزة في طبيعته، مما يعود إلى الجرأة"[8].
ونرى أن ربط الاستعارة بالمبالغة فكرة متداولة منذ القرن الرابع وخاصة لدى الرماني، وابن جني الذي يقول: "الاستعارة لا تكون إلا للمبالغة وإلا فهي حقيقة"[9]، ولكن عبد القاهر رسخ الفكرة وفصل فيها القول، مركزا على المنحيين الدلالي والتداولي.
وقد تختلط الاستعارة المفيدة وغير المفيدة في بعض الأحيان إذا نقل العضو من وضع لغوي إلى آخر لا على سبيل الاتساع فحسب، وإنما لتحقيق غرض من الكلام قائم على التشبيه، ففي قولهم: "إنه لغليظ الجحافل، وغليظ المشافر، فهو كلام "يصدر عنهم في مواضع الذم فصار بمنزلة أن يقال كأن شفته في الغلظ مشفر بعير وجحفلة الفرس"[10].
والملاحظ هنا أن التشبيه هو أساس التمييز بين نوعي الاستعارة المفيدة وغير المفيدة، ومتى كان غرضا من أغراض الكلام حين النقل كان الحديث عن النوع الثاني من الاستعارة، ومثل هذا يقال في قولهم: "أنشب فيه مخالبه" لأن المعنى على أن تجعل له في التعلق بالشيء والاستيلاء عليه حالة كحالة الأسد مع فريسته والبازي مع صيده"[11].
ويظهر هذا المعنى في قول الشاعر:
سأمنعها أو سوف أجعل أمرها           إلى ملك أظلافـه لـم تشقـق
"وهو في حد التشبيه والاستعارة... كأنه قال: أجعل أمرها إلى ملك لا إلى عبد جاف متشقق الأظلاف"[12].
ويصرف النظر إلى مفهومي التشبيه والتمثيل ألفيناهما يشغلان حيزا فسيحا، إذ نتبين منذ الوهلة الأولى تميز عبد القاهر عن السكاكي والقزويني وغيرهما، إذ يرى أن أس الأساس في التمييز بين التشبيه والتمثيل هو حصول التأويل في التمثيل وعدم الحاجة إليه في التشبيه. يقول: "اعلم أن الشيئين إذا شبه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين:
- أحدهما : أن يكون من جهة أمر بين لا يحتاج إلى تأول.
- والآخر: أن يكون الشبه محصلا بضرب من التأول"[13].
ولئن كان التشبيه التمثيلي يكاد يكون مركبا عند البلاغيين المتأخرين، فإن التمثيل عند عبد القاهر يتحقق عند حاجة المتلقي إلى التأويل في فهم وجه الشبه على عكس التشبيه الذي يتميز فيه وجه الشبه بالوضوح، من هنا يبدو تحول "التأويل في فكر عبد القاهر البلاغي إلى مقولة تصنيفية  تتحدد على أساسها الفروق الدقيقة للأنماط البلاغية"[14].
إن أهم ما يستوقفنا هو كون التشبيه يتأسس على صورتين حقيقيتين، أما في حالة التمثيل فإننا نكون أمام صورة حقيقية وأخرى متخيلة، والثانية انعكاس للأولى، وهذا هو الاختلاف المركزي الذي أماط عنه عبد القاهر اللثام في التفريق بين التمثيل والتشبيه، ولم يتنبه إليه غيره من البلاغيين، ولم يكن استعمال عبد القاهر للفظة "المرآة" إلا انسجاما مع هذا الطرح، إذ يرى "أنك بالتمثيل في حكم من يرى صورة واحدة، إلا أنه يراها تارة في المرآة، وتارة على ظاهر الأمر، وأما في التشبيه الصريح، فإنك ترى صورتين على الحقيقة"[15]، ونعتقد أن الترمذي قد سبقه إلى عقد القران بين التمثيل والمرآة[16].
فزع عبد القاهر إلى إبراز الفروق بين التشبيه والتمثيل حتى إننا لنكشف عن مدى اختلافه مع البلاغيين المتأخرين؛ فما عده هؤلاء تشبيها من مثل قولهم: حجة كالشمس، جعله عبد القاهر تمثيلا لأن الوجه وجه عقلي لا حسي.
إن قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالأمس)[17]. يجسد صورة متخيلة للحياة، مستجمعة من عناصر أغلبها حسي، ولكن قلما تجتمع فيما بينها، ولا مراء أن ما يفسر وحدتها وانسجامها هو التخييل والتأويل، مما يدفعنا إلى الحسم في القول إن صورتا التمثيل إنما تدرك بالعقل وإعمال الفكر، إذ يحتاج المتلقي لرفع الحجب عن تلك الصور إلى آليات واستدلالات منطقية، فيما يدرك المقصود من التشبيه بيسر وسهولة بالنظر إلى أننا نكون أمام صورة حسية وحقيقية بإزاء صورة أخرى حسية وحقيقية، و"يبين ذلك: أنا لو فرضنا أن نزول عن أوهامنا ونفوسنا صور الأجسام من القرب والبعد وغيرهما من الأوصاف الخاصة بالأشياء المحسوسة، لم يكن تخيل شيء من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة. فلا يتصور معنى كون الرجل بعيدا من حيث العزة والسلطان، قريبا من حيث الجود والإحسان، حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبعد جرمه عنك، وقرب نوره منك..."[18]، وذلك نحو قول البحتري:
دان على أيدي العفاة، وشاسع
كالبدر أفرط في العلو وضوءه


عن كل ند في الندى وضريب
للعصبة السارين جد قريب

لقد صاغ الجرجاني العلاقة بين التمثيل والمرآة بصورة تمثيلية دقيقة ترتكز على التخييل، إذ تخيل إليك المرآة أن فيها شخصا ثانيا، كما توهمك الصورة التمثيلية بإعطاء صورتين، وليستا في الحقيقة سوى صورة واحدة، وقد جعلها عبد القاهر فارقا أساسيا بين التمثيل والتشبيه، ولم ينتبه إليه غيره من البلاغيين، وإنما اكتفوا بالإيماء إلى تركيبية التمثيل.
ولئن كان التمثيل أعلى مرتبة من التشبيه لاعتماده الآلية التأويلية التي تتعب الذهن وتعمل الحيلة، فإن عبد القاهر يجعل لتشكلات التشبيه درجات، إن من جهة الصورة والشكل، أو من جهة اللون، أو جمع الصورة واللون معا، أو من جهة الهيئة أو من جهة الحواس والغرائز والطباع.
ويمضي مضي المتثبت الحصيف ليقدم لنا أنموذجا لنمط من العملية التأويلية منتحيا منحى استدلاليا قويا، إذ يرى أن التشبيه في قولك: "هذه حجة كالشمس في الظهور" لا يتم لك إلا بتأول، ويسترسل في استدلاله على ذلك، طلبا للإيضاح والبيان[19].
ويردف عبد القاهر أن "ما طريقه التأول يتفاوت تفاوتا شديدا، فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه، ويعطي المقادة طوعا، حتى إنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك، ومنه ما يحتاج فيه إلى قدر من التأمل، ومنه ما يدق ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل روية ولطف فكرة"[20].
وقد عمد عبد القاهر إلى إيراد أمثلة لهذه المراتب مقررا أن التمثيل الأثير هو الذي يحتاج إلى قدر وفير من التأمل، على نحو يجعلنا نؤمن بان التشبيه عام والتمثيل أخص منه.
خاصية التعليل: لا يكتفي عبد القاهر بإطلاق الحكم، بل ينزع إلى تعليله كما هو الشأن في قوله بتأثير التركيب النحوي (النظم) في جمالية الاستعارة، فلئن كان المتقدمون يفردون اللفظة المستعارة بالمزية، فإن عبد القاهر يربط بين التركيب النحوي والصورة البلاغية، ففي قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) لا تظهر المزية من مجرد الاستعارة الحاصلة في الاشتعال ولكن "لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرجع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني".[21]
وتكمن جمالية هذا التركيب في إرادة معنى لا يتأتى إلا به، وهو الشمول، فلو قلنا: اشتعل الشيب في الرأس جاز أن يشتعل بعضه ويبقى البعض الآخر، ونظير هذا: اشتعلت النار في البيت واشتعل البيت نارا...
الأساس العقدي في كتابات عبد القاهر.
يعد الموقف العقدي زاوية الرؤية لكثير من القضايا الأدبية، والتي لا يتأتى فهمها إلا باستكناه أصولها، والتعرف إلى الأسس التي تنبني عليها.
فأغلب التراث العربي لا يعدو أن يكون معادلا جماليا لاعتناقيات ومذهبيات، مما يعلل ذلك التداخل الحاصل بين مختلف مجالات المعرفة، ولا يكاد عبد القاهر يشذ عن هذا الواقع إذ يداخل بشكل إيجابي بين المعارف، مشدودا على الدوام إلى المقصدية الدينية، معبرا بذلك عن أصل من أصول المعرفة في التراث، وهو دوران العلوم على حصول النفع العاجل والآجل اعتبارا واستهجانا، "وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر، وطلبتها هذا الطلب، احتجت إلى صبر على التأمل، ومواظبة على التدبر، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام، وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية، ومتى جشمت ذلك وأبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت إلى غرض كريم وتعرضت لأمر جسيم وآثرت التي هي أتم لدينك وفضلك، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك، وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها"[22].
من هنا، فإن البحث في التراث يستلزم البحث في المذهبيات والعقائد باعتبارها الموجه الحقيقي الثاوي خلف الكتابة، إذ وظفت العلوم في خدمة النص الديني.
والواضح أن العقيدة الأشعرية حاضرة في دلائل الجرجاني إن على المستوى المنهجي، من خلال جدله مع المعتزلة عبر أنصار اللفظ، أو على المستوى المضموني من خلال تأكيده على الكلام النفسي في النظم.
الهاجس الديني ونظرية الإعجاز.
يصدر عبد القاهر في كتاباته عن رؤية عقدية تبتغي التدليل على الإعجاز، وإيجاد البديل لنظرية التخييل ممثلا في نظرية النظم. وينطلق عبد القاهر من استراتيجية للخطاب تعي وظيفتها وإمكانيات تحولها وتبدلها، فبعد أن قسم المعاني إلى عقلية وتخييلية، يثني على المعاني العقلية، ويجعل الكذب في البيت مرادفا للتخييل دون أن يحصر الشعر في الصدق.
ويتجه عبد القاهر إلى إخراج الاستعارة من المعاني التخييلية التي ترتبط عنده بالكذب، رجاء تنزيه القرآن الكريم عن الكذب والإيهام والمخادعة، وإزالة الشبهات عن الاستعارات الكثيفة التي تحفل بها آياته، ويسجل مصطفى الجوزو اضطراب عبد القاهر حين جعل العقل لا يقبل المعاني التخييلية، وأخرجها من باب الاستعارات، وحين أثنى عليها وجعلها جزءا من الاستعارة لا ينفصل ولا يتجزأ عنها[23].
ولعل مواقفه المتباينة تعود –حسب بعض الباحثين ومنهم جابر عصفور ومصطفى الجوزو وشكري عياد وعصام قصبجي – إلى:
1- كونه كلاميا يعلي من شأن العقل ويفضل المعاني العقلية.
2- كونه مؤمنا ورعا يتورع عن وصف القرآن بالكذب فأبعد الاستعارة عن التخييل.
3- كونه أديبا ناقدا يلتذ بسحر البيان ويعجب بالمعاني التخييلية.
المنحى النفسي السيكولوجي.
ينحو عبد القاهر في تأليف كتابيه منحى نفسيا سيكولوجيا مستندا إلى مبدأ الكلام النفسي عند الأشاعرة، ويثير انتباهنا ما درج عليه الدارسون من تأكيد أن الكلام النفسي معناه الانطلاق من المعاني وجعلها الأساس في ترتيب الألفاظ مؤسسين هذا الرأي على بعض أقواله، منها (أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس)[24]، ومنها أيضا (أن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق)[25].
ويتضح هذا المنحى أكثر في كتاب الأسرار، ففي ثنايا بحثه -مثلا- عن أسباب تأثير التمثيل يحدد عبد القاهر أربع علل أساسية، كما يرى أن في التمثيل درجات، أعلاها ما دق معناه واحتاج إلى مجهود مضاعف.
ويقدم عبد القاهر لهذه العلل جميعها تفسيرا نفسيا موصولا بالمركوز في طباع الإنسان، على أنه لا ينبغي للتمثيل أن يبلغ درجة التعقيد المعنوي والغموض والتعمية، وإنما أن يحتاج إلى قدر من التأمل والتفكير، يتأتى في ضوئه الإقرار بمبدإ التفاضل عند المتلقي في فهم ذلك النوع، فالتأمل مدعاة إلى التمايز، وبالتمايز يحصل التفاضل بين الناس في الفهم والتصور والتبيين، مما يتيح إمكانية الفصل بين الشعر وكلام السوقة وبين النقاد وحفظة الشعر، كما أمكن الحسم باحتياج المرء لفهم التمثيل إلى آليات للربط وعمليات ذهنية تفيء في مجملها إلى نفسية المتلقي.
بقي أن نشير إلى أن المعاني النفسية ليس يقصد منها المعنى الذي هو قسيم اللفظ، كما يتوهم الكثيرون، ولا يقصد منها المعاني الدلالية العرفية، وإنما هي المعادل الذهني للمعاني النحوية[26].
التوليف بين النزعتين العلمية والذوقية الأدبية.
ظل عمل عبد القاهر التأسيسي للمباحث البلاغية محكوما بأسلوب الحجاج والاستدلال إيمانا منه بأن البلاغة أداة إقناعية تتوخى الإبلاغ والتواصل، على أن هذه النزعة العلمية لم تغيب الذوق الفني والإحساس الجمالي الذي رسخ سنخه بوصفه أساسا مركزيا في ثنايا كتابات عبد القاهر الذي يكشف بذوقه الرفيع وحسه المرهف عن جماليات التعبير العربي وأفانين لغة الضاد.
بين مفهومي "النقل" و"الادعاء".
عول القدماء قبل عبد القاهر الجرجاني في الاستعارة على مبدإ النقل الذي يفيد بأن الاستعارة واقعة في ذات اللفظ، ولم يرق هذا الرأي للجرجاني –وإن كان قد تبناه في أسراره، إذ لم تبرح لفظة الادعاء دلالة الزعم لتتحول إلى مفهوم اصطلاحي قار في الدلائل –لأنه يجافي أنظاره البيانية ويتعارض ورؤاه البلاغية، فنحى بالنقد على هذا التصور، مما مكنه من الاستعاضة عنه بمفهوم بديل للاستعارة، وهو مفهوم "الادعاء" الذي عالجه عبد القاهر في طي فكرته المحورية (أي النظم)، متأثرا في ذلك بنزعته الكلامية وثقافته المنطقية.
يقول في الأسرار: "اعلم أن "الاستعارة" في الجملة أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي معروف، تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية"[27].
ولما كانت الاستعارة عنده طريقة من طرق الإثبات، عمادها المبالغة القائمة على الادعاء، أضحى من الضروري أن يستبعد فكرة النقل التي يظل المعنى الأصلي فيها على ذكر منك أبدا، يقول في الدلائل، مثلا: "(...) تفسير هذا: أنك إذا قلت: "رأيت أسدا" فقد ادعيت في إنسان أنه أسد، وجعلته إياه، ولا يكون الإنسان أسدا، وإذا قلت: "إذ أصبحت بيد الشمال زمامها"، فقد ادعيت أن للشمال يدا، ومعلوم أنه لا يكون للريح يد"[28].
مبادئ الادعاء ومقتضياته[29].
-مبدأ ترجيح المعنى: مقتضاه أن الاستعارة ليست في المشابهة بقدر ما هي في المطابقة، والمقتضى المطابقي للادعاء هو أن القول الاستعاري ملتبس أو يحتمل تخريجه على المعنى الظاهر، فضلا عن احتماله الدلالة على المعنى المجازي.
- مبدأ ترجيح المعنى: مقتضاه أن الاستعارة ليست في اللفظ بقدر ما هي في المعنى. والمقتضى المعنوي للادعاء هو أن القول الاستعاري يستند إلى بنية استدلالية.
- مبدأ ترجيح النظم: مقتضاه أن الاستعارة ليست في الكلمة بقدر ما هي في التركيب.
والمقتضى النظمي للادعاء هو أن القول الاستعاري يصير تركيبا خبريا أصليا لا ينحصر في الربط بين مخبر عنه ومخبر به، بل يضيف عليهما عنصرا ثالثا هو ذات المخبر. وبزيادة هذا العنصر يكون عبد القاهر قد نقل القول الاستعاري من مرتبة الدلالة المجردة إلى مرتبة التداول التي تتوخى مقتضيات مقام الكلام.
وبهذا، يتضح أن القول الاستعاري تجتمع له الأوصاف الثلاثة: أنه تركيب خبري تداولي وأنه قابل للأخذ على جهة الحقيقة وأنه مشتمل على بنية تدليلية، وكل قول هذه أوصافه، يعد في سياق الجدل الذي نهجه الجرجاني بمنزلة "دعوى" كما يعد صاحبه "مدعيا" ويعد عمله "ادعاء".
ولما كانت الاستعارة القائمة على الادعاء طريقة من طرائق إثبات المعنى وتأكيده. ولما كانت فكرة الادعاء توحي إلى التداخل بين الأجناس، فإن الجرجاني يعود ليذكر بأن الاستعارة لا تلغي الحدود الثابتة التي تقوم في الواقع بين العوالم، ذلك أننا "لا ندعي للرجال عنقا كعنق الأسد، ولا صورة كصورته، وإنما ندعي له شجاعة الأسد فحسب، وهي ليست كل مدلول اللفظ".
وفق هذه الرؤية نردد مع أحمد أبي زيد قوله: "بهذا التحديد العقلي الذي يحصر فكرة الادعاء في الاستعارة في جزئية محدودة من الدلالة، يكون عبد القاهر قد وضع حدا لما كان يوحي به كلامه السابق من معان تشير إلى تداخل الأجناس في التعبير الاستعاري، وعاد إلى مبدأ الوضوح والتحديد الذي هو من مظاهر النزعة الكلامية[30]، هذه النزعة التي "أدت إلى تصور الاستعارة تصورا عقليا يميل إلى التحديد والوضوح ويرفض الالتباس والغموض، وإلى حصر وظيفتها في الإبانة حينا وفي الإثبات القائم على ضرب من الادعاء حينا آخر"[31].
ولا ريب أن هذه الخاصية الإثباتية تؤكد الفكرة الشائعة التي مؤداها: "أننا نتكلم عامة بقصد التأثير"، وهذا ما جعل البعض يسلم بالقوة الحجاجية العالية للقول الاستعاري وينزع إلى الكشف عن العلاقة الوثيقة بين مفهوم السلم الحجاجي ومفهوم القوة الحجاجية الذي يرتبط أساسا بالسياق وبمقاصد المتكلمين، ولا يمكن الحديث عنه خارج هذا الإطار.
فالقول الذي يقع في أعلى درجات السلم هو الدليل الأقوى، من هنا كون الأقوال الاستعارية أعلى حجاحيا، من الأقوال العادية.
بعض أوجه الانتقادات المتلبسة بتصورات معاصرة.
ومن الانتقادات التي لا ينبغي الذهول عنها، إعلان جابر عصفور[32] عن  استنكار ذوقه الذي وسمه بالمعاصر لمفهوم الاستعارة عند عبد القاهر نظرا إلى خلطه إياها بمباحث من المنطق وعلم الكلام، لنلحظ جنوحه إلى قراءة عبد القاهر من منظور حداثي على غرار ما فعل حامد أبو زيد في كتابه "إشكالية القراءة وآليات التأويل".
والسبب نفسه جعله يتوهم مواطن ضعف لعبد القاهر، وينتقده بريتشاردز قائلا: "ومن المؤكد أننا – في كل استعارة أصيلة- لسنا إزاء طرفين ثابتين متمايزين وإنما إزاء طرفين يتفاعل كل منهما مع الآخر ويعدل منه، إن كل طرف من طرفي الاستعارة يفقد شيئا من معناه الأصلي، ويكتسب معنى جديدا نتيجة لتفاعله مع الطرف الآخر داخل سياق الاستعارة، الذي يتفاعل بدوره مع السياق الكامل للعمل الشعري أو الأدبي، وعلى هذا الأساس فنحن لسنا إزاء معنى حقيقي ومعنى مجازي هو ترجمة للأول، بل نحن –في الحقيقة- إزاء معنى جديد نابع من تفاعل السياقات القديمة لكل طرف من طرفي الاستعارة داخل السياق الجديد الذي وضعت فيه. وبهذا الفهم لا تصبح الاستعارة من قبيل النقل أو التعليق، أو الادعاء، وإنما تصبح –لو أخذنا أبسط أشكالها فيما يقول ريتشاردز- "عبارة عن فكرتين لشيئين مختلفين، تعملان معا، خلال كلمة أو عبارة واحدة تدعم كلتا الفكرتين، ويكون معناها –أي الاستعارة- محصلة لتفاعلهما"[33].
فيما ينعى عبد القادر حسين على عبد القاهر تفريقه، بين اللفظ والمعنى، والمجاز والاستعارة، وتكرار تعريف النظم والمجاز والاستعارة، علاوة على تأسيس نظرياته على وحدة الجملة لا وحدة النص[34].
ومهما يكن من أمر، فإن عبد القاهر هو أول من استخدم آليات حجاجية لوصف الاستعارة، إذ أدخل مفهوم الادعاء بمقتضياته التداولية الثلاثة: "التقرير" و"التحقيق" و"التدليل" كما استفاد في ثنايا أبحاثه من مفهوم التعارض من غير أن يطرحه طرحا إجرائيا صريحا[35].
ينضاف إلى ذلك أن لا أحد ينكر ماله من فضل التأصيل النقدي لبعض المفاهيم ولاسيما على مستوى التفريق بين استعارة مفيدة (حجاجية) أو ما يسمى في النقد الحديث بالاستعارة الحية، وبين استعارة غير مفيدة (غير حجاجية)، وتسمى في النقد الحديث الاستعارة الميتة، وإن كنا نسجل اختلافا في الأساس النظري الذي تنبني عليه كلا من رؤية عبد القاهر ورؤى المعاصرين، على أنهم يتفقون جميعا على تفضيل الاستعارة على التشبيه.
أما تأثير عبد القاهر في البلاغيين العرب المتأخرين فأمر ثابت، إذ اكتفوا بالشرح والتوضيح والاستدراك البسيط لبعض المسائل والمفاهيم، من مثل ما فعله الزمخشري والفخر الرازي الذي لاحظ بمعية ابن الزملكاني أن كتابي عبد القاهر غير مرتبين، فأعادا ترتيبهما بشكل متعسف، دون أن ننسى بناء "مفتاح" السكاكي على أفكار عبد القاهر عن الادعاء والإثبات، ناهيك بتأثيره في بلاغة القرن الثامن مع يحيى بن حمزة العلوي، وسريان نظرياته إلى يومنا هذا.  
        
       
    



[1] - أسرار البلاغة، تحقيق محمد محمود شاكر، ص: 29.
[2] - م. نفسه، ص: 29.
[3] - مقدمة المحقق، محمود شاكر، أ.
[4] - الأسرار 26. 
[5] - "الاستعارة بين حساب المنطق ونظرية الحجاج" د. طه عبد الرحمن، مجلة "المناظرة"، السنة 2، العدد 4، مايو 1991م، ص: 61-63.  
[6] - الأسرار، ص: 30.
[7] - الأسرار، ص: 36.
[8] - م. نفسه، ص: 32 – 33.
[9] - ينظر: العمدة، ج 1، ص: 270 (تحقيق محيي الدين عبد الحميد).
[10] - الأسرار، 36.
[11] - م. نفسه، 36.
[12] - م. نفسه، 39.
[13] - الأسرار، ص: 90.
[14] - "مركبة المجاز: من يقودها؟ وإلى أين؟ نصر حامد أبو زيد، مجلة ألف (المجاز والتمثيل في العصور الوسطى)، مشترك بين باحثين، ط: 2، 1993، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ص: 56.
[15] - الأسرار، ص: 236.
[16] - نقلا عن ألفت الروبي، مقال "المثل والتمثيل في التراث النقدي والبلاغي حتى نهاية القرن الخامس الهجري" ضمن مجلة ألف (عدد سابق)، ص: 91.
[17] - سورة يونس: 24.
[18] - الأسرار، ص: 236 – 237.
[19] - الأسرار، ص: 92 – 93.
[20] - م. نفسه، ص: 93.
[21] - الدلائل، ص: 100.
[22] - الدلائل، ص: 37.
[23] - نظريات الشعر عند العرب، مصطفى الجوزو، ص: 122-128.
[24]- الدلائل، ص: 45.
[25] - م. نفسه، ص: 44.
[26] - مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن، أحمد أبو زيد، ص: 96-97.
[27] - ص: 30.
[28] - الأسرار، ص: 67.
[29] - د، طه عبد الرحمن، مقال سابق، الصفحات نفسها.
[30] - "الاستعارة عند المتكلمين"، احمد أبو زيد، مجلة المناظرة (عدد سابق)، ص: 51.
[31] - م. نفسه، ص: 52.
[32] - "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي"، ص: 232.
[33] - م. نفسه، ص: 226-227.
[34] - "عبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم"، عبد القادر حسين، مجلة الفكر العربي، ع: 46، السنة 8، يونيو 1987، عدد خاص (البلاغة العربية والبلاغيون)، معهد الإنماء العربي، بيروت، ص: 152.
[35] - طه عبد الرحمن، مقال سابق، ص: 70.