عتمات العتبات: مقدمة ديوان ابن خفاجة والأسئلة
الملتبسة:
د. الحسين ايت مبارك
تواضع
علماء مناهج البحث على أن المقدمة هي آخر ما يكتب بعقب الانتهاء من كل عمل، سواء
أكان ذا صبغة أكاديمية علمية أم إبداعية أم غير ذلك.
ويُفترض
فيها –تأسيسا على موقعها وزمن كتابتها- أن تكون إيضاحية وإضائية من حيث بيان
ملابسات العمل اختيارا وموضوعا ومنهجا... الأمر الذي يقتضي وجود وشائج تلحم عراها
بالمتن، فتلقي كثيرا من الأضواء على ما يثوي من السِّفر بين الأطواء.
غير
أن وَسْمَ التخون وَوَصْمَ النقص أو النكوص المُلازمين للعمل البشري، وصفة التفاوت
التي لا نَعْدَمها حتى عند المبرزين والمميزين من الكتاب تجعل من المقدمة مرتعا
لانتجاع الحيل والمكر، قصد إخفاء الهنات والسقطات وتمويه الغايات، ما يفرض مقابلة
مكر الكتابة بمكر القراءة.
لاشك
أن الخطاب المقدماتي –بالنظر إلى موقعه ووظيفته- قد أخذ وضعا اعتباريا مميزا
ومركزيا ضمن النصوص الموازية، أو ما يسميه جنيت بالعتبات (Seuils)، أو بالمناص (Paratexte)، الذي يرتبق بالنص ويرتهن بالتبعية له
وبخدمته[1]. واستطاع
أن ينتزع شطرا من الاهتمام النقدي، بل أفلح في أن ينفلت من هامشيته ويثير جدلا
معرفيا يتصل بنظرية النوع الأدبي أو النظرية الأجناسية.
ويبدو
أن النصوص الاستهلالية أصلية ذاتية (préface originale auctoriale) كانت أو غيرية (préface Allographe)
مسكونة بهاجس رصد "آفاق التوقع" وتوجيهها، والتأسيس لميثاق إن لم يكن
لوثاق قرائي مساوق للمتلقي في رحلته ومطوق لتأويلاته، وذلك بتهييئ شروط استقبال
النص وتلقيه بصورة جيدة، عن طريق استغلال منطقة التفاعل (Transaction) التي يتيحها الهامش المناصي لبناء
استراتيجيات جاذبة للجمهور ومؤثرة في تلقيه[2].
بوحي
من هذه المعطيات، يقتضي الخوض في الخطاب المقدماتي نظرا منصفا ونقرا حصيفا حتى يسلمك
معاقده ويبصرك بموالجه ومخارجه.
وأتصور
أن مقدمة ديوان ابن خفاجة، وهي من النمط الذاتي، عتبةٌ تستغرقها العتمة، وتستضمر
أسئلة مخاتلة وملتبسة، لا ندعي الإحاطة بها أو الإجابة عنها، وإنما آثرنا أن نجعل
من هذه المقاربة إشكالية لحمتها الافتراض وسداها السؤال.
1- الضمير
المستأثر وسؤال السيرة:
1-1- زمن
الشباب وأسر المحاكاة:
يحرص
ابن خفاجة على سرد سيرته الشعرية من مطالع الشباب إلى مقاطع المشيب، ويقول عن
المرحلة الأولى: "فإني كنت والشباب يرف غضارة، ويخف بي غرارة، فأقوم طورا
وأقعد تارة- قد جنحت إلى الأدب أرتاده مرتعا، وأَرِدُهُ مَشرَعا. فما تصفحت مثل
شعر الرضي، ومهيار الديلمي، وعبد المحسن الصوري، وما حذا حذوه وأخذ مأخذه –حتى
تملكني من تلك المحاسن الرائعة الرائقة، والألفاظ الشفافة الشائقة، ما يناسب بُرْدَ
الشباب رقة، وبَرْدَ الشراب رَيْقَةً. فما كان إلا أن ملت إليه، وأقبلت عليه، أُرَوَّقُهُ
وأُرَوَّيهِ، وأحاول التشبه بواحد واحد فيه"[3].
تشف
هذه العتبة عن المهيع الشعري الذي ارتضاه ابن خفاجة مسلكا مستجيبا لإملاءات
الشباب، وتستضمر في الآن ذاته إرهاصا باستراتيجية دفاعية ترجع الفرع إلى الأصل،
وتؤصل المرجعيات، درءا لكل اتهام أو مطعن نقدي. وتؤول هذه المرجعيات إلى أقطاب
ازدان بهم المشهد التراثي في شقه البدوي من أمثال: الشريف الرضي، ومهيار الديلمي
وعبد المحسن الصوري، الذين يمثلون الشكل الأصيل للثقافة العربية والنمط الأثيل من
أعرافها وقيمها.
إن
إعمال القياس المضمر يقودنا ويستدرجنا إلى القول إن الطاعن في شعر ابن خفاجة طاعن،
بالنتيجة، في القيم العربية الأصيلة، وثقافة الأجداد وشعر البداوة والنقاوة.
وتتضافر هذه الحجة مع مضمون عتبة "الحمدلة" الفرعية(وهي من أدبيات
الخطبة عند العرب)، التي يحمد فيها الله على أن فتق لسانه وأنطقه بالحكمة
"حمد معترف بما أولاه وآتاه، مغترف من فيض نعماه ورحماه"[4] ما يدل
على أنه حمد في طياته فخر بالنبوغ والتميز.
فقوله:
فتق اللسان دليل على تملكه ناصية البيان: (إن من البيان لسحرا)، والنطق بالحكمة من
أخص خصائص الشعراء المفلقين: (إن من الشعر لحكمة أو لحكما)[5].
ثم
يقطع شك التعميم بيقين التخصيص اعترافا بالمنة واغترافا من فيض النعمة، ما يقوم
دليلا على شد وثاق إنجازه ورد وثائق إنتاجه إلى المرجعية الإسلامية الراسخة، التي
تدفع بعض الغمز واللمز الذي لحق شعره، ولاسيما في شرخ الصبا وموجة الشباب.
بهذا
التصور، أفترض أن ابن خفاجة قد أنشأ هذه المقدمة على نية السجال، أو لنقل إنه كان
يستهدف متلقيا مخصوصا ليساجله، وينعطف إلى آخر ليجامله.
ويترتب
على هذا الافتراض أن المتلقي المستهدف بالسجال فقيه أو سياسي أو طائفة من هؤلاء أو
أولئك، وإن كنت أرجح أنه فقيه، الأمر الذي ينم عن أننا إزاء صراع على الهيمنة
وتنازع سلط بين نسقين ثقافيين.
وننتزع
المؤشرات الدالة على أن هذا المتلقي ليس من أهل الأدب من جملة أمور، منها:
1-
قول ابن خفاجة فيه إنه "ليس ممن يركض في ذلك الميدان، ولا يجري في هذا
العنان"[6]،
لذلك يستقبح أمرا يدرك صعوبة نيله واستحالة أن يجاري فيه ابن خفاجة أو يباريه.
ويضيف:
"وهذا السرد من الكلام إنما يتكلم فيه أهله، ومن شأنه عقده وحله"[7].
2-
تأكيد ابن خفاجة –في رد ضمني على المتلقي المفترض- على تضمن شعره للبيان والحكمة
تلميحا إلى قول النبي (صلى الله عليه وسلم) المشار إليه سلفا.
3-
تصريحه بمشافهة المناهل الشعرية المترعة بالقيم العربية الأصيلة.
4-
سكوته زمنا عن الشعر في إشارة إلى وعيه بجسامة أمره، وارعوائه عن نظمه لأسباب
دينية وخلقية، ولاسيما مع تقدمه في السن وقرب رحيله إلى دار المقر، وكأنه يريد أن
يزاحم متلقيه المفترض على موقع الوصاية ويشاطره المضمار. وربما يؤول سكوته عن
النظم برهة إلى ما أشار إليه صاحب "بغية الملتمس"[8] من مرضه
النفسي وتوجسه من الموت غب أن تضافرت عليه وطأة فقدان الشباب، ووطأة الضياع،
والأوضاع الموبوءة على عهد ملوك الطوائف.
5-
تَطَلُّبُ المتلقي (الذي أزعم أنه فقيه) للصدق، وهو ليس مطلبا ملحا في الأدب. يقول
ابن خفاجة: "وإذا كان القصد فيه التخييلَ، فليس القصد فيه الصدقَ، ولا يعاب
فيه الكذب، ولكل مقام مقال"[9].
2.1- زمن
المشيب وسر المجافاة:
يقول
ابن خفاجة: "ولما انصدع ليل الشباب عن فجره، ورغب المشيب بنا عن هجره، نزلتُ
عنه مركبا، وَتَبَدَّلْتُ به مذهبا، فأضربتُ عنه برهة من الزمان طويلة، إضراب راغب
عنه، زاهد فيه، حتى كأني ما سامرته جليسا، يشافهني أنيسا، ولا سايرته أليفا، يفاوهني
لطيفا"[10].
ينطق
النص بحجة تلبست بصيغة خبر يفيد انصراف ابن خفاجة عن الشعر وانحرافه عن لذيذ
البوح، ونفسه لا تطاوعه ولا تستطيب ما أقدم عليه، وإنما هي آثار الخوف من المآل، بعقب
انصرام حبل الشباب، وكأني به يقر لمتلقيه أن الوازع الديني كان فيصلا في هذا
الهجر، ما يدل على أن ذكر هذه المرحلة من سيرته الشعرية لا يعدو أن يكون حلقة من
الحلقات الحجاجية في سجاله مع المتلقي المفترض.
3.1- الأوبة
عن الهجر والغياب ومخايل المحاباة:
استعملتُ
هنا كلمة "مخايل" بهدف أن أنأى بهذا المقال عن مقام الحسم والجزم، وأملا
في تركِ هامشٍ فسيحٍ للمطارحة والنقاش.
فصورة
ابن خفاجة في المشهد النقدي قد تلونت بألوان من لا تروقه الزلفى، ولا يريق ماء
وجهه على أعتاب القصور والبلاطات. يقول ابن بسام: "لا أعرفه تعرض لملوك
الطوائف بوقتنا، على أنه نشأ في أيامهم، ونظر إلى تهافتهم في الأدب وازدحامهم".[11]
ووصفه
ابن الأبار في "التكملة" بأنه "كان نزيه النفس، لا يتكسب بالشعر،
ولا يمتدح رجاء الرفد"[12]. غير أن
شوقي ضيف يرى أننا لا نبلغ زمن المرابطين "حتى نجده يمدح واليهم في الأندلس إبراهيم
بن يوسف بن تاشفين، ومساعديه من العمال والقضاة أمثال ابن تيفلويت حاكم شرقي
الأندلس وأبي العلاء بن زهر الطبيب والفقيه المشهور. وذهب إلى حاضرة المرابطين في
المغرب، فمدح سلطانهم علي بن يوسف بن تاشفين (...) فكانت تُغدق عليه الأموال
والهبات من كل جانب، وكان يعود بها إلى بلدته، فينفقها في متعه ومسراته"[13].
وهنا،
تستوقفني بعض الأسئلة من قبيل:
-
ما علاقته بالأمراء والوزراء الذين ذكرهم في مواضع من ديوانه، ومنها المقدمة؟
-
لماذا أعرض عن الشعر زمنا؟
-
ولماذا عاد إليه، وربط هذه العودة بالأمير المرابطي؟، وذلك في قوله: "ولما
دخل جزيرةَ -أَنْدَلُسَ – وصل الله حمايتها وكفايتها- الأمير الأجل أبو إسحاقَ
إبراهيمُ، ابن أمير المسلمين، وناصر الدين- أنهضه الله بما قلده، ومكن أمره وخلده، وأعز
نصره وأيده، وبسط بطاعته خطوته ويده!- تَعَيَّنَ أن أفد عليه مهنيا بالولاية
مسلما، وأغشى بساطه الرفيع موفيا حق الطاعة معظما"[14]
أفلا يمكن أن يكون ذلك ضربا من المحاباة للأمير المرابطي طلبا للصلة أو السلطة،
وهو الذي يدرك أن الشعر يشفع للمرء عند النبلاء؟[15].
-
أليس الأمير هو المتلقي الثاني المستهدف في هذه المقدمة؟ ولاسيما أنه أمعن في
الثناء عليه والجهر بأفضاله، قائلا: "فما لبث أن رفع وأسنى، واصطنع فأدنى،
وشفع المبرة فأثنى، وأقبل إقبال رعاية وتكرمة فشرف، واشتمل بوارف ظله وعواطف طَلَّهِ
فاكتنف"[16].
ويبدو
أن الأمير قد شمله بالرعاية والعناية، مما يظهره قوله: "فارتهنني بره وإجماله،
وارتبطني بِشْرُهُ وإقباله، ومن اغتبط ارتبط،
ومن
وجد الإحسان قيدا تقيدا"[17].
ونلحظ
حرص ابن خفاجة على وصل استئنافه لقول الشعر باحتضان الأمير له، واحتراسه بفصل ذلك
عن المآرب الخاصة، إذ يقول: "فعطفت هنالك على نظم القوافي عناني، وسننتها عند
ذلك حللا على معاطف سلطاني، مصطنعا، لا منتجعا، ومستميلا، لا مستنيلا"[18].
4.1- مرحلة
التشذيب والحسابات:
يقول
ابن خفاجة: "ولما ارتَقتْ بِي السن مرتقاها، وشارفت الحياة منتهاها، وتوالت
رغبة الإخوان فيه تتجدد، وحرص الأعيان عليه يتأكد، توخيت أن أَقْصُرَهُ في مجلد
وأَحْضُرَهُ، وأحشره جملة وأنثره، وكان قد باد، أو كاد، لدثور رِقَاعَ مسوداته،
وإخلاق حواشي تعليقاته. واقتضى النظر فيما حاولته أن أتعهده ثانيا تعهد مؤلف،
وأتفقده عائدا تفقد متأمل مُثَقَّفٍ، فمنه ما تعهدته فقيدته، ومنه ما لحظته
فلفظته، ومنه ما تصفحته فأصلحته، إما لاستفادة معنى، وإما لاستجادة مبنى"[19].
يشف
النص عن منهج الشاعر في جمع إبداعاته ونشرها، والذي انطوى على الخطوات الآتية:
-
التعهد بالتأمل والتثقيف.
-
اطراح ما شابته العيوب وشانته.
-
إصلاح بعض النصوص ومراجعتها.
-
إثبات ما بدا صالحا مبنى ومعنى
-
التخلي عن الأشعار ذات المعاني المنكرة.
والجلي
أن صاحبنا قد تخلى عن عيون المبدع ليعيد قراءة مسوداته بعيون الناقد، جاعلا بينه
وبينها مسافة كفيلة بجعله يتحلى بالموضوعية ويتحلل من الذاتية، مسنودا بتاريخ من
القراءات والتأويلات والتصويبات التي همت شعره، بالنظر إلى بعد الشقة بين زمن
الإنشاء وزمن الجمع والنشر، فهو يعرف عيوبه مسبقا لأن النقاد قد اهتدوا إليها
وأهدوها إليه.
2-الضمير
المستتر وسؤال السريرة:
جاء
في المقدمة: "وإن جميع الكلام، من مرتجل بديهي، ومنقح حولي، متقدما كان سابقا،
أو تاليا لاحقا- مُسْتَهْدِفٌ لمطعن طاعن، إما بوجه صحيح يعقل ويقبل، وإما لخبث
سريرة، وضَعف بصيرة، وخطوة في الإدراك قصيرة"[20].
يشهد
النص بوجود نمطين من المتلقين: نمط منصف ونمط مجحف. غير أنه سكت عن النمط الأول،
وانبرى طعنا وتجريحا على النمط الموسوم بخبث السريرة وضعف البصيرة، ما يقوم حجة
على أن هذه العتبة/الخطبة كانت معتركا للصدام بين الشاعر وبين أناس أمعن في
التعريض بهم، قائلا: "ولم أحتفل بنقد أقوام، في مساليخ أنعام، يُراءون الناس
ولا يذكرون الله إلا قليلا"[21] .
وطفق
ابن خفاجة يرافع ويدافع عن مشربه الإبداعي، ويدفع مزاعم النمط الثاني "ممن
انفرد برأي فائل يراه، ولا محالة أن الشذوذ عن الإجماع، لشذوذ في الطباع، أو
استيلاء وَهْنِ قد غلب على ذهن"[22]، ثم لا
يجد غضاضة في الاستفهام: "وهل يغض ويتنقص، ويبحث عن العثرات ويفحص، إلا مزجى
البضاعة، في تلك الصناعة، متخلف، في تلك البابة متكلف، مسف، في تلك المهنة مسفسف،
قد أحس من نفسه بفسول الفهم، وسفول القدم، وعجز عن تسنم تلك المرتبة، وإحراز تلك
المنقبة، فهو يَلْقُطُ، مالا يسقط، بين سوء طوية واعتقاد، وتأخر في باب الانتقاد،
ورجاء تساوي الأقدام في المراتب، ومطاولة الرؤوس بالمناكب"[23] بل يمكن
الادعاء أن المقدمة برمتها قد استهلكتها هذه الاستراتيجية الدفاعية التي تحتقبها
الدلائل الآتية:
أ-
النطق بطريقة العرب وإيراد الأشباه والنظائر:
ولاسيما
من الشعراء المطبوعين، وذلك اجتراحا للمشروعية، والإيهام بأن شعره قطعة من الزمن
الجميل، واستئناف لإفضاءات الفحول. فلا جرم أن تملكه العجب من استهجان ما سماه
بالطريقة الأنيقة في الغزل، واستبراد "تلك الألفاظ المرهفة الرقيقة. ولا
نعلم: هل ما ينعاه، وليس يرضاه، هو في مثل
ما نلم به من طريقة عبد المحسن الصوري تشبها به، كقولنا:
يا بَانَةً تهتز فينانةً
لله أعطافُكِ من خُوطَةٍ عَلِقْتُ طرفا فاتنا فاترا |
|
وروضةً تَنْفَحُ
معطارا
وحبذا نَوْرُكِ نُوَّارا فيك وغِرًّا منكِ غَرَّارَا..."[24] |
ويمضي في مراكمة الشواهد، إلى أن يقول: "أم
لعل ذلك في بعض ما نحوم عليه، ونَحِنُّ إليه، من مسلك الموسوي الرضي، كقولنا من
قصيدة:
ألا ليت أنفاسَ
الرياح النواسمِ
|
|
يُحَيين عني الواضحات المباسم(...)[25]
|
ثم يعطف على النماذج
التي نسج فيها على منوال مهيار الديلمي وغيره ممن يعدهم أقطابا لا يسوغ التقليل من
شانهم أو شأن من اهتدى بهديهم. وقس على ذلك حين آثر "ذكر التلذذ والتبلد في
الديار"[26]
يُحَييها أو يَنْدُبُهَا ويبكيها، أو حين لف الغزل بالحماسة تمثلا لأساليب أبي
الطيب المتنبي[27].
ب-
التعلق بمذهبه والتعلل بسورة الشباب وثورته:
أتصور
أن ابن خفاجة التمس مسلك الإضمار لتعليل السقطات التي رصدها النظر النقدي المنصف،
ليقول تارة: "ومنه ما كان قد انتظم في عصر الشبيبة، وبطريق الدُّعَابَةِ والطَّيبَةِ"[28] ويقول
أخرى: "ومن ذلك قولنا في غلام قد بَقَلَ عِذَارُهُ، وإن كان مقولا بطريق
الفكاهة، والنادر والدعابة، والشباب يؤمئذ
بريعانه، وسورة سلطانه"[29].
ومع
أنه يتعلل بسورة الشباب واندفاعه، فإنه قد تلقى هذه المؤاخذات بقبول حسن، ما أفضى
به إلى التسليم بأن الشعر "وإن اهتبل به واعْتُمِلَ فيه، ليس يخلو جيده من
سقط"[30]
كما أنه قد "ينشأ ناقص ماء الحسن والقبول".[31]
ج-
التأنق في الأساليب:
تعلن
المقدمة عن قدرات هذا الأندلسي التعبيرية، وهو الذي وسمه ابن بسام بـ "الناظم
المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرفِ بين حُكمه وتحكّمه البديع، تصرف في
فنون الإبداع كيف شاء، وأتبع دلوه الرشاء (....) فجاء نظامه أرق من النفس العليل،
وآنقَ من الروض البليل، يكاد يمتزج بالروح،
وترتاح إليه النفس كالغصن المروح"[32].
وقال
عنه ابن خاقان: "مالك أعنة المحاسن وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها،
الناظم لعقودها، الراقم لبرودها، المجيد لإرهافها، العالم بجلائها وزفافها، تصرف
في فنون الإبداع كيف شاء..."[33].
ولا
مراء أن الخطبة تشي بلغة منتقاة ومشبعة بطاقة تأثيرية تراوح بين الإقناع والإمتاع.
ويبدو أنه دبجها بعناية فائقة ليجعلها دليلا على تميزه، ولتسانده في تسفيه الآراء
المغرضة لمنتقديه.
نحو
إضاءة العتمات:
جماع
القول أن عتبة الخطبة أو الخطاب المقدماتي لديوان ابن خفاجة هو نافذة تطل على
الأخاديد والتضاريس النفسية المنآدة لصاحبها، إذ تجاذبته لعبة الوجوه والأقنعة، ما
يعوز إلى قارئ خابر للمتون وعارك للحزون ليفك شفرة اللغة المضطربة، والأصوات المتدافعة
المتجهة إلى متلق تجامله، وآخر تساجله، فتصافح هذا وتضرب صفحا عن ذاك، لتخلص إلى
الانتصار للنسق الثقافي الأدبي ذي المياسم البدوية والنفس التقليدي وهو النسق
المعلن، على حساب نسق مضمر.
فهل
هذا الخطاب يبني ردوده على واقع أم على توقعات؟
ولا
إخاله يبني على التوقعات أو يتوجس من النقد ليستقبل من أمره ما حقه أن يستدبر، لأن
جل تلك الإنتاجات التي تضمنها الديوان خرجت إلى حيز التداول على امتداد أزمنة متفاوتة
قبل جمعها والتقديم لها، ويسند ذلك قوله: "وسيختلف وجوده بما عاودناه من
مفتقده ومنتقده"[34].
وتتناسل
الأسئلة الاستشرافية التي يحف بها الالتباس والغموض، ومؤداها:
-
متى اكتمل شعره ونضج، وهو الذي سكت عن قول الشعر دهرا؟
-
ولماذا هجره أصلا؟
-
ولماذا عاد إليه؟
-
لماذا أصر على "الصيغة السردية" التي تتعقب سيرته ومسيرته الشعرية من
الشباب إلى المشيب؟
-
لماذا سكت عن النقد المنصف وأضرب عن التمثيل له، إلا من إجاباته المضمرة التي
تدثرت بلبوس التعليل والتسويغ؟
-
ما علاقته بالوزراء والأمراء؟ أو بصيغة أوضح: هل كانت له طموحات سياسية؟ ولاسيما
في ضوء التناقض بين ما يشاع عنه من عزة وعفة وزهد في التكسب بشعره، وبين احتفائه
بالأمراء في مواضع متعددة من خطبته وديوانه، وإقرار البعض بقبوله للعطايا.
-
بل لماذا هذه المقدمة أصلا؟ وغير خاف أن الشعراء القدامى بالمشرق والمغرب معا قلما
يكتبون لدواوينهم مقدمات؟
-
ولماذا حادت المقدمة عن رصد مفهوم الشعر ومقوماته وأساليبه، ليستغرقها الدفاع
والهجوم؟ فقد اكتفى بالقول إن "الشعر يأتلف من معنى ولفظ وعروض وحرف
روي"[35]
وهو تصور شكلي ساذج.
ومهما
يكن من أمر، فإن هذا الخطاب المقدماتي قد تقاذفته وظائف شتى، تضايفت فيما بينهما
وتآلفت، وهي:
1-
وظيفة التأصيل للاتجاه الشعري البدوي الذي ارتضاه الشاعر.
2-
وظيفة التعليل لبعض ما اعتور شعره من هفوات تؤول إلى طيش الشباب وإملاءاته.
3-
وظيفة التبجيل والإقرار بأفضال الأمير المرابطي في عودته إلى الإبداع التي ترادف العودة
إلى الحياة.
4-
وظيفة التدليل، وهي محايثة لكل الوظائف الأخرى، لأن المقدمة أساسا، قد انخرطت في
مسلك دفاعي سجالي.
ويبدو
أن المسألة – في البداية والنهاية- لا تتصل بتدبيج مقدمة أو الترويج لمذهب شعري،
وإنما هي لعبة "محافل خطابية" تعكس صراع أنساق ومواقع، والله أعلى
واعلم.
لائحة المصادر والمراجع:
1-
العربية:
-
بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي،
تحقيق: د. روحية عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1997م.
-
التكملة لكتاب الصلة، ابن الأبار، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري
(القاهرة)، دار الكتاب اللبناني (بيروت)، د ط، 1989م.
-
ديوان ابن خفاجة، أبو إسحاق بن أبي الفتح بن خفاجة، تحقيق: د. سيد غازي، منشأة
المعارف بالاسكندرية، ط 2، د ت.
-
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام الشنتريني، تحقيق: إحسان عباس، دار
الثقافة، بيروت، لبنان، د ط، 1979م، القسم 3، المجلد 1.
-
سنن أبي داود، الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعت السجستاني الأزدي، ومعه
كتاب معالم السنن للخطابي، إعداد وتعليق: عزت عبيد، دار الحديث، حمص، سوريا، ط 1،
1971م.
-
صحيح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د ط، د ت. (طبعة مرقمة).
-
صحيح مسلم، حقق نصوصه وصححه ورقمه وعد كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد
عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، مصر، ط 1، 1991م.
-
الفن ومذاهبه في الشعر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، مكتبة الدراسات
الإسلامية، ط 7، 1969م.
-
قلائد العقيان ومحاسن الأعيان في بدائع نبهاء الأدباء وروائع فحول الشعراء،
الفتح بن خاقان، حققه وعلق عليه: د. حسين
يوسف خربوش، مكتبة المنار للطباعة والنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، 1989م.
-
مسند أحمد، (الإمام أحمد بن حنبل)، وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال
والأفعال، دار صادر، بيروت، لبنان، د ط، د ت.
2-
الغربية:
- Gerard Genette, Seuils, Ed.
Seuil, paris, coll. Poétique, 1987.
- Philippe le jeune, le pacte
autobiographique, Ed. seuil, paris, 1975.
Philippe
le jeune – le pacte autobiographique – Ed. seuil- parid- 1975- p 45.
[3] - ديوان ابن خفاجة – أبو إسحاق بن أبي الفتح
بن خفاجة –تحقيق: د. سيد غازي- منشأة المعارف بالإسكندرية، ط 2، د ت، ص: 6.
[5] - روى البخاري في صحيحه الشطر الأول، رقم
الحديث 6145، والشطر الثاني (وإن من البيان لسحرا) رقم 5146. وروى مسلم الشطر
الثاني، رقم 869.
سنن أبي داوود- الشطر
الأول- رقم الحديث (5010)- والثاني رقم (5011).
ومسند الإمام أحمد بن
حنبل- وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال- دار صادر، بيروت، لبنان –
د ط، د ت – مج 1، ص: 309.
[8] - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس،
أحمد بن يحيي بن احمد بن عميرة الضبي، تحقيق: د. روحية عبد الرحمن السويفي، دار
الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1997م، ص: 185.
وينظر أيضا: الفن ومذاهبه
في الشعر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، مكتبة الدراسات الإسلامية، ط 7،
1969 م، ص: 444.
ويضيف ابن بسام:
"أنه قد نسك اليوم نسك ابن أذينة،
وأغضى عن إرسال نظره في أعقاب الهوى عينه" الذخيرة في محاسن أهل
الجزيرة، ابن بسام الشنتريني، تحقيق، إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، د ط،
1979م، القسم 3، المجلد 1، ص: 542.
وأنه كان "يتوجع
لسالف ذلك الزمان" ص: 648.
[12] - التكملة لكتاب الصلة، ابن الأبار، تحقيق
إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري (القاهرة)، دار الكتاب اللبناني (بيروت)، ط 1،
1989م، ص: 186.
[33] - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان في بدائع
نبهاء الأدباء وروائع فحول الشعراء، الفتح بن خاقان، حققه وعلق عليه، د. حسين يوسف
خربوش، مكتبة المنار للطباعة والنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، 1989م، ص: 739.
ويقول فيه ابن الأبار:"يتصرف
كيف يريد، فيبدع ويجيد، ناظما وناثرا، ومادحا وراثيا، ومشببا وشبها". التكملة
لكتاب الصلة، ص: 186.