الاثنين، 4 أبريل 2016

عبرات على جسور حلم عابر: قبس من مضمرات "سراج الأرق"

عبرات على جسور حلم عابر: قبس من مضمرات "سراج الأرق"

د. الحسين ايت مبارك
كلية اللغة العربية
جامعة القاضي عياض- مراكش

توطئة:
سئل أعرابي: لماذا تعد المراثي من أشرف أشعار العرب؟ فقال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق".
فلئن كانت الأكباد تحترق لمحض الرثاء، فكيف الحال حينما يكون الرثاء ترجيعا لأصداء الرحم،وموصولا بفلذات أكباد غيبتها الأقدار وشط بها المزار إلى الأبد؟
فإذا صحوت فأنت مني فلذة




وإذا غفوت فأنت كل وجودي (1)


 
عتبة العنوان:
يبدو عنوان الديوان "سراج الأرق" للوهلة الأولى طافحا بالمفارقة، ومسكونا بالغرابة، غير أنها الغرابة التي جعلها الجاحظ معبرا نحو الإبداع.
فمن محمولات السراج:
- منحه الإضاءة والنور والإشراق.
- وكونه الهادي والدليل.
- وتحويله العتمة إلى بياض وجعله الليل نهارا.
أما الأرق فموصول بمنطق القلق، وهو صنو السهاد. وقديما قالت العرب: إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد. ولاشك أن الفزع والهلع قد مزقا فؤاد الشاعر:
فما النوم يا عدنان إلا هواجس


وما الليل يا عدنان إلا بهيم (2)


فكيف يتصافح السراج والأرق؟
يبدو الشاعر وكأنه يبين لنا أسباب أرقه ويدلنا عليها، مع إصرار على توظيف كلمة "سراج" التي تنم عن شدة الأرق (الضوء يمنع النوم عن الإنسان)، كما تفصح عن خبايا وحقائق لم يكن الشاعر ليكتشفها لولا أن ألم به هذا المصاب، فأسند السراج إلى الأرق ليضيء بواطن الشاعر ومواطن العتمة فيها، دون أن ننسى أن الكلمة تشي بنفس ديني جوهره الإيمان بالقدر والرضا بالنصيب، وأن اختيار الواقع أحسن من اختيار ما تطويه دفاتر الغيب دائما.
"سراج الأرق" منفى للذات ومنفذ إليها.
الشعر هو ذلك الرحم الخصب الذي يحتضن مشاعر الإنسان، ويحفظ قداستها. وقد استطاع هذا الرحم أن يسر إلينا بما يحمله في ثناياه من بقايا إنسان مرهف، نال منه الألم مناله، ومزقه الحزن كل ممزق، وبلغت به فداحة الفقد حدا، أضحت معه اللغة عرضا لجوهر يجهر بالانكسار، وعباراتها المصوغة بماء العبرات تعلن موتا مضاعفا، زمنه أماسي صيف غادر وعلته مآسي طيف عابر:
في فقده فقدي، شبيهي إذ يحس بما أحس به بلا مجهود
يا موت حررني من الدنيا فإني بعد هجرته سئمت وجودي

يبكي غيابك طائر الشعر الذي
إذ عاد يسمعني نعيبا مقلقا
أبكيك يا ولدي وما أبكي سوى



ربيته دائما على التغريد
فكأنه ينعى إلي وجودي
نفسي التي صيرتها كالعود(3)



   بقي جسد الشاعر وحيدا بعد أن سلبت منه الروح (بسبب وفاة عدنان)، يتمرغ في آلامه راجيا أن يحرره الموت من الدنيا كيف لا وقد فقد نفسه إذ فقد شبيهه ومن كان ينخرط معه في علاقة انصهار وتفاعل، فأحال غيابه الأفراح أتراحا.
لقد ترك الشاعر يتيما، ليعيد إنتاج تأملات الفيلسوف الروماني سيوران الغارقة في الإحساس بالتيه وسط واقع وصفه بالقمامة(4) فمع "أن ظاهرة الموت من الأشياء المعتادة والطبيعية في حياة الإنسان، تتكرر كل يوم، ويعيشها في كل الأزمنة، إلا أن صدمتها متفردة متوحدة، لا شبيه لها في كل الصدمات التي من الممكن أن تصيب الإنسان، أو تعترض حياته، لأنها تأخذ عزيزا لا يعوض، وتوقف حياة، كان الأمل أن تستمر ولو إلى حين"(5).
نستوشي من موت عدنان آصرة حب آسرة، أفضت إلى انصهار الذوات، فآنسنا موت الوالد في موت الولد، ذلك أن "الإبداع الناجم عن الحب يستدعي الخارق من الطاقة الكامنة في الإنسان تحريا وإثبات ذات، إذا كان الأمر متعلقا بوجود ومصير وهوية أو حيث يصل المحب بوجوده وخطابه إلى حد التماهي بالآخر إلى درجة الشهادة أو الموت في سبيله أو من أجله"(6)، يقول الشاعر: (7)
لو كان يفدى بالحياة مقدم


لوهبت نفسي في فداء وحيدي

ديوان "سراج الأرق" معادل كتابي لممارسات تأملية تخلص لغواية الارتداد إلى الذات غب أن فقدت إيقاع الحياة، ومجلى كاشف عن نمط من أنماط وعي الذات بذاتها، وعي تلقفته النصوص لتؤسس عالما من علامات تضمر أكثر مما تظهر، غير أنها تعكس صورة الذات في مرآة مشروخة، وكفيلة بتعديل آفاق الاستجابة.
يأبي الشاعر إسماعيل زويريق في هذا الديوان إلا أن يستدرجنا نحو وضع كثير من القيم والمبادئ التي تشربناها - على امتداد أعمارنا- على محك التساؤل من جديد. ولاشك أن ما اختطه القدر في الخفاء قد اختطف من دواخل الشاعر ملامح الأشياء، بنحو جعله يفقد الرغبة في العيش والرغبة في الإبداع والرغبة في كل شيء وفي أي شيء.
أسئلة الوجود بلغة الموت:  
يبدو أن الاستفهام كان آلية أسعفت الشاعر في إشراك المتلقي، وحثه على الاستجابة التشاركية، وإن كانت جل استفهاماته تتمرد على منطق الجواب، أو بلغة أخرى، لا تطلب إجابة، بل تطلب استجابة، وتعلن انقلابا في الكيان، أخفت في دواخله توهج القول. جاء في قصيدة "موئلك الجليل":
بموتك صرت أجهل ما أقول
خرست، وكيف تسعفني القوافي



فقول الشعر بعدك مستحيل
وأنت الحزن ليس له مثيل(8)

يبدع الشاعر من حيث يعلن عجزه عن الإبداع، وهذا نمط من أنماط التمرد على منطق الجواب الذي أسلفنا الإشارة إليه، ذلك أن المتلقي سينكر على الشاعر سؤاله: وكيف تسعفني القوافي، وذلك بعد أن قرر أن قول الشعر بعد موت ابنه مستحيل.
والحال أن الحزن قد أفلح في أن يغدو قوة دافعة، فَجّرَت في شاعرنا طاقة جردت الأشياء من معانيها؛ فلا العيش عيش، ولا الصبر جميل، ولا الخوف خوف، ولا الشوق غلاب، ولا الحياة حياة ولا ما فوق الثرى مستطاب، يقول شاعرنا:
فكيف أروم من دنياي عيشا


وأمر العيش في الدنيا ثقيل (9)

ويقول أيضا:
فكيف يُصَبِّر القلب التناسي


وكيف يصده الصبر الجميل (10)
ويضيف:
قلبي رقيق كيف أحتمل الضنى


والنار في جنبي بغير وقود(11)

قال الفيلسوف سيوران: "ثرثرة هي، كل مناقشة مع شخص لم يعرف الألم"(12)، ويضيف: "قال لي أحد المرضى: "ما جدوى آلامي؟ لست شاعرا حتى استثمرها أو أفتخر بها"(13).
إن الألم هو المجلى الحقيقي لصدق المشاعر الإنسانية، والمعرض الذي يجعل القيم المتغنى بها (كالصبر الجميل مثلا) مجرد شعارات فارغة لا تصمد أمام عواصف الألم.
يرى ديكرو أن ما يجعل الاستفهام حجاجيا هو ما ينطوي عليه من مضمرات(14) فلا عجب أن يتخذه الشاعر أداة تعبيرية لأنه يريد أن يقول كلاما كثيرا، ولكنه يدرك أن اللغة تمارس فعل الخيانة، ولاسيما عندما تصدر عن ذات منكسرة، ومستسلمة، أفقدها المصاب صوابها، حتى إنها لا تحتمل الصبر:
إني عدمت الصبر لا توصي به


مثلي لأن الصبر غير مفيد(15)

ولا تشتهي الحياة:
ما عاد لي في الكون أية غاية


فقد انتهت مع حلمي الموؤود(16)
ويقول من قصيدة "يا موت" معلنا – في ندائه هذا- نهاية الآمال:
إن كنت تحت الترب ملحودا فإني فوقه كالميت الملحود

ماذا أؤمل بعد موتك في الحيا


ة وأنت في هذي الحياة وجودي(17)



على قدر الفواجع تأتي الأحزان ولأن الشاعر اختزل كل معاني الحياة في وليده عدنان، فلا غرابة أن يجد في شهوة الكلمات العِذَابِ هروبا من قسوة العَذَابِ، فالكتابة طقس هروبي أو "حيلة عندما لا نكون متعودين على الصيدليات، هي شفاء"(18) يقول:
جميم يا بني عليك حزني


وحزن الناس كلهم قليل(19)

ثم يقول:
فبعدك كلها الأشياء عندي


وأيم الله يا ولدي ضئيل(20)
 
لقد عمد الشاعر إلى حجة التعميم (حزن الناس كلهم + كلها الأشياء عندي) مسنودة بالقسم (وأيم الله)، ليدلل على هول ما حل به، ويقطع أسباب التردد في التسليم بصدق مشاعره وقوة توهجها.
جلي أن الحزن قد فرض صوره في تضاعيف الديوان، وصدع بعلاماته في كل بيت من أبياته، بل في كل كلمة من كلماته.
فها هو الشاعر إسماعيل زويريق يضع أحزان الناس في كفة وحزنه في كفة أخرى، يقول:
فكل حزين حزنه غير ساكن
فليتك يا عدنان تعرف أنني


وحزنك يا عدنان حزن مقيم
بفقدك ما كانت حياتي تدوم(21)

ويقول شاعرنا من قصيدته "يقولون صبرا واحتسابا"، والتي كتبها أسبوعا بعد وفاة الفقيد:
تعجلت يا ابني في فراقي
بُعيد الشباب اخترت تركي
بموتك قد ضيعت رشدي
فلست سوى أب شقي
فأشعلت في الوجدان نارا
فدعني لأني سوف أبكي


فليتك ما اخترت الذهابا
فصيرت أعيادي عذابا
وفتحت للأحزان بابا
لموتك لم يضرب حسابا
وأنهكت أطياري عقابا
ودع أدمعي تجري سحابا(22)

بايعاز من جرحه الغائر وصيفه الجائر، تجرد الشاعر من تاريخه وجغرافيته معا، وتخلى عن حكمته التي تشهد بها دواوينه السابقة وعن إيمانه الراسخ بالأجل والقدر، ليفتح بابا من أبواب السخرية بالأقدار متمنيا لو لم يختر عدنان الرحيل باكرا. وإن كانت صيغة التمني "ليت" الدالة على استحالة المتمنى تعيد ترتيب الأحداث في الذهن. هو نوع من الاختيار غير الإرادي أو الاختيار القسري والذي جاء "بعيد الشباب".
فَتَحْتَ وطأة الفاجعة لم ينس الشاعر حسه الوطني من خلال إشارته إلى عيد الشباب (بعيد الشباب) الذي يصادف يوم 21 غشت، وهو نفسه اليوم الذي توفي فيه عدنان، الأمر الذي عكر على الشاعر صفو العيد، ليطلق العنان للدمع لعله يطفئ جذوة النار المشتعلة بدواخله.
خاتمة:
لقد وجد الشاعر في الكتابة ملاذه الآمن وبلسمه الشافي أو الموهم بالشفاء من آلام الفقد ووجع الرحيل. وقد أسهم الألم العميق والمفجع في استدراج كوامن المبدع وتحريك بوح عارم – سينضاف إلى ما دبجه يراعه في رثاء أمه- (23) ليحجز للشاعر موطئ قدم في مملكة الرثاء، ويجعل ديوانه يزاحم عيون ما أنتجته قرائح العرب في باب البكاء على من غُيبوا في صدع من الأرض. 









هوامش الدراسة:
1- ديوان "سراج الأرق" سيرة حلم عابر" إسماعيل زويريق، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط 1، 2015م ، ص: 47.
2- م. نفسه، ص: 57.
3- م. نفسه، ص: 52.
4- المعنى والغضب، مدخل إلى فلسفة سيوران، حميد زنار، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، 2009م، ص: 9-10.
5- جدلية الشعر والذات في شعر اسماعيل زويريق، د.مسلك ميمون، منشورات اتحاد كتاب المغرب فرع مراكش، العدد 3، (بدعم من مؤسسة groupe APEF Education )، المطبعة والوراقة الوطنية – مراكش،  ط 1،  2015م، ص: 58.
6- سيميائية الأهواء في الرواية السياسية، دراسة في رواية "ملائكة الجبل الأخضر"، عائشة الدرمكي، مجلة فصول العددان: 87-88، خريف 2013 شتاء 2014، ص: 401.
7- سراج الأرق، ص: 51
8- م. نفسه، ص: 82
9- م.نفسه، ص: 82
10- م.نفسه، ص: 82
11- م.نفسه، ص: 48
12- المعنى والغضب، ص: 72
13- م. نفسه، ص: 72
14- تقول سامية الدريدي إن "طاقة السؤال الاقناعية تنبني في أغلب الأحيان على الضمني لا على المصرح به وهو أمر تعرض إليه ديكرو في إطار نظرية المساءلة حين بين أن الافتراضات الضمنية في بعض الأسئلة هي التي تجعل من الاستفهام أسلوبا حجاجيا"، ضمن "الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني للهجرة، بنيته وأساليبه، عالم الكتب الحديث، الأردن، جدارا للكتاب العالمي، الأردن، ط 1،  2008م،  ص: 142-143.
15- سراج الأرق، ص: 51
16- م. نفسه، ص: 47
17- م.نفسه، ص: 50
18- المعنى والغضب، ص: 73
19- سراج الأرق، ص: 82
20- م.نفسه، ص: 82
21- م.نفسه، ص: 57
22- م.نفسه، ص: 56
23- ديوان "أبكيك أمي" دار وليلي للطباعة والنشر- مراكش، ط 1.