الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

استراتيجية التقابل وبناء المعنى في ديوان "طين الأبدية".

استراتيجية التقابل وبناء المعنى في ديوان "طين الأبدية".
د. الحسين ايت مبارك
Emai:abourawarig@gmail.com
كلية اللغة العربية
جامعة القاضي عياض
مراكش
يعد التقابل آلية من آليات إنتاج النص، ومسلكا قرائيا كفيلا بتمثل مسارات المعنى وتقنيات تشكيله، ولاسيما أن "التقابل يسكن النصوص والإنسان والعالم من حولنا، فلا تقال المعاني ولا تكتب إلا بعد أن تعرض بشكل تقابلي على المستوى الذهني، إذ أن الخطابات تنتج أصلا بكيفية متقابلة عن طريق عرض الأشياء على ما يقابلها، أو يماثلها، أو يضادها، أو يحاورها، أو يتممها، أو يشرحها، أو غير ذلك"(1).
ولئن كان الدرس البلاغي القديم قد تنبه إلى أهمية التقابل والطباق، غير انه حصره في أدوار ضيقة أملتها نظرة القدامى إلى علم البديع، التي لا تراعي خاصية التقابل الكونية والإنسانية والمعرفية والإنتاجية والتأويلية(2).
ولعل اللغويات المعرفية، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا في صيغها المتطورة تقر جميعا "أن الناس يمفهمون خبراتهم بألفاظ مجازية بواسطة الاستعارة، والكناية، والمفارقة، والتنافي الدلالي oxymoron وما إليها"(3)، فكيف الحال حين يتعلق الأمر بالنص الشعري الذي يحفل بهذه الأساليب، ويعتد بها علامة دالة على عبقرية منتجه.
بهذا التصور، يفترض أن تقوم استراتيجية التقابل على مبدأ التأويل للترجيح بين المعاني المتعددة، واستغلال الثراء والغنى الذي تتميز به النصوص، وخاصة منها الحداثية وما بعد الحداثية.
ومدار غنى هذه النصوص على ما يحتقب بنياتها من رموز وصور وأساطير تجعل المحلل السيميائي ينظر إليها بوصفها علامات "تشتغل من خلال وجهها الرمزي كبؤر لدلالات ثانية، لا مجرد استنساخ لعالم مكتف بذاته" (4).
وبالنظر إلى ديوان "طين الأبدية" نلحظ انه مرتع خصب ومربع أثير لرموز شاكست محمولاتها لتنخرط في إيقاع الزمن الحاضر، وبخاصة في النص الشعري الأول "نضرة أزلية"، الذي يتناص مع "ملحمة جلجامش"، ويلتمس فيها جوهر الحضارة، بوصفها بنية رمزية دالة ووظيفية تستجيب "للمشترك الإنساني"، وهي من أعظم وأشهر الملاحم الإنسانية التي دونها التاريخ السومري في بلاد الرافدين. ومع أن الرموز الموظفة في هذا النص تحيل على هذه الملحمة وأحداثها، غير أنها تنأى عن الاستنساخ الحرفي لتجعل النص نهبا للقراءات المتعددة ولشريعة التأويل.  
القصيدة المفتاح والتصريف الرديف للعنوان المركزي.  
يمكن عد قصيدة "نضرة أزلية" نصا مقدماتيا بصيغة من الصيغ، بدءا من عنوانها، وانتهاء بمضامينها.
أما عنوانها فينخرط مع عنوان الديوان في علاقات التداخل والملابسة، وذلك على الصورة الآتية:
- إن كلمة "نضرة" سواء أسقطت الرقبة من الضاد لتدل على "الرؤية" وهي المعبر إلى تبين حقيقة الأشياء، أم لم تسقط –وهذا هو المرجح- لتحيل على معنى الإشراق والنضارة، وهي الأصل في الأشياء لاتصالها بالشبوب وعنفوانه، لَتقترب من معنى "الطين" المحيل على أصل الإنسان وحقيقته، فضلا عن أن "الأزلية" و"الأبدية" تشتركان في عدم التناهي ارتدادا نحو الماضي السحيق، وامتدادا شطر المستقبل غير المحدود، ما يضعنا إزاء إشراقة إنسانية وتوهج أزلي يرجو الشاعر أن يغدو أبديا.  
أما فيما يختص بالمضامين فيقدم لنا الديوان تفاصيل كثيرة لبعض ما أجمل في النص المفتاح من حيث الانفتاح على التاريخ ومغازلة الذاكرة الإنسانية ومخفيات الزمن العراقي الضارب بجذوره في الأعماق، في سعي إلى القراءة بالمماثلة واستنباط العبر والدروس، وذلك في لغة تخييلية تؤْثر مركب التناص واستدعاء الرموز التاريخية والدينية، ومسوغها في ذلك وحدة المكان (بلاد الرافدين أو العراق)، وتماثل النوازع الإنسانية.
يدرك الشاعر تمام الإدراك أن الموت هو الفيصل بين الدائم والمؤقت أو بين الأبدي والزائل، يقول الشاعر في سياق حديثه عن التحولات التي عدلت بوصلة جلجامش من الجور إلى العدل ومن الشر إلى الخير، بسبب تأثره بموت صديقه أنكيدو:
لملمك الموتى
كما يلملم الأرق على باب الأبد(5). 
وباب الأبد هو القيامة التي لا مهرب لأحد منها، ما يجعل أمل الشاعر وحلمه بالأبدية موصولا، في حدسي، بالحياتين الأولى والثانية: (حياة وطن وأجيال وليس حياة أفراد، يموت الفرد ويبقى الوطن ويبقى أبناؤه وأحفاده...).
وإذا أضفنا إلى ذلك أن سعي الإنسان إلى الأبدية يكون عادة في الأشياء التي تجلب له السعادة، نفهم أن أحمد محمد رمضان مسكون بواقع وطنه، بحيث أجال فيه النظر وأطال، ما يقتضي تشريحه لاطراح الأتراح ومداواة الجراح.
وفي تصوري أن هذه السعادة الأبدية لن تتأتى إلا بالصفاء الروحي ودرء الأنانيات والسموق عن التعصب وإشاعة العدل وترسيخ إنسانية الإنسان.
إن الطين هو حقيقة الإنسان بتناقضاته وتجاذباته (خير وشر- عدل وجور- إيمان وكفر...). ألم ترسخ الآلهة في الحضارة العراقية القديمة عرفا يقضي بتجريد الملك من ملكه لبعض الوقت، وفسح المجال أمام الشعب الأوروكي لينعم بحريته، وأمام الملك ليعترف بخطاياه ويضع إنسانيته في الميزان بمنأى عن بريق التيجان والصولجان وعن وهم القداسة الذي يضفيه الحاكم على نفسه، ولاسيما أن جلجامش ثلثاه إله وثلثه الآخر إنسان.
ويأبى الخير إلا أن ينتصر بعقب لقاء الجبابرة (جلجامش المتجبر والقاتل والمغتصب... ابن الإله ننسون، وأنكيدو العملاق المخلص من العذاب الأبدي، والذي نصفه بشر ونصفه حيوان، غير أنهما تحولا إلى صديقين وتجنبا المصارعة والمقارعة، لينخرطا معا في تغيير الأوضاع، والقضاء على العفريت الشرير "خمبايا" الذي كان يقض مضاجع الأهالي).
إن هاجس "الأبدية" الذي سكن الشاعر وهو يرى دماء قومه تراق على أرض العراق، هو نفسه الهاجس الذي استولى على خَلَدِ جلجامش غِبَّ مباينة الروح لجسد صديقه، فراح يبحث عن عشبة الخلود الثاوية بقاع البحر، لينتهي به المطاف المجهد إلى مسلك اقترحه عليه حكماء أوروك وهو أن الخلود مرادف للعمل والبناء والعدل والمساواة ونبذ الشرور وإشاعة القيم النبيلة.
جاء في الديوان:
على تربة هذا القبر نمت عشبة خلدت قلب
 صديقي (6).
تأسيسا على ما سلف، نفهم أن الدعوة إلى العمل الصادق والمواطنة الصالحة والخيرة وتبصرة الأمة بقيمها الآفلة هي عمود الديوان الذي بين أيدينا.
ولاشك أن "ملحمة جلجامش" قد احتضنت خطابا مسعفا وقابلا للتلوين والتحيين "actualisation" حفزت الشاعر على أن يتلو تلوها، ويبني عليها نصه الافتتاحي، غير أنه ألبسه ثوب عصره، وجعله ذوب روحه، ليكون أشكل بدهره، بلغه المبرد، الأمر الذي جعله مليئا بالتقابلات والثنائيات، وجعلنا نتخذ هذه التقابلات مدخلا للقراءة والتأويل.
التقابل الحضاري ولعبة التناص.
اغتنم أحمد محمد رمضان تقنية التناص ليستحضر رموزا تنتمي إلى زمن سحيق كانت فيه حضارة بلاد الرافدين في أوج ألقها وتوهجها. من جملة هذه الرموز: عشتار والثور وشمش وننسون وجلجامش وأنكيدو وأرورو وشيوخ أوروك والسريانات وعشبة الخلود وخمبايا والفراشة وانليل وآنو.
ومع أن الإنسان هو الإنسان بتناقضاته وتجاذباته، فقد استطاع جلجامش وصديقه أن يغيرا حياة الناس نحو الوجهة الإيجابية، ويتركا سمات وبصمات خلدتها الملحمة المعروفة، ودرأت الشاعر إلى تصريفها في تضاعيف إبداعه وإضمار الرغبة في الائتساء بها.
ويبدو أن التقابل كان جسره إلى هذا المسعى، إذ يقابل بين حضارتين متباينتين وبين زمنين متناكفين، وبين الحكام قديما (جلجامش أنموذجا) وحكام اليوم، كما يقابل بين الموت والحياة في سرد شعري بديع:
أنكيدو: جلجامش يا صديقي
هل جربت أن تركب غيمة ذهبية
غفت على ضفة الفرات...؟
تغير ملامح العالم ابتسامتك لنعشي...؟(7)
نستشف كيف يسهم الموت في تجديد الحياة، وكيف تكون النهاية عنوانا للبداية، وكيف نحول كل هذه الدماء التي سقت أرض العراق إلى غيث يحييها ويهيئ لها أسباب النهوض من جديد.
ويدرك الحاكم كم كان واهما، وكم كانت نظرته ضيقة حين استبد به الاعتقاد بالقداسة وربما بالعصمة من الزلل، لأنه أفلح في خاتمة المطاف في تغليب شقه الإنساني على شقه الإلهي.
وقد تأتى له ذلك الإدراك من هذا التقابل:
آه...
كم تغيرت أغصان قلوبنا،
عندما هجرتها عصافير الآلهة...
حملها الطبالون بأعراسهم(8).
ويمعن في السخرية من الأوضاع، ومن مرايا العالم المتدابرة:
في قلب هذا العالم ولدت عشتار،
 كسائر الملائكة
 لولا ثور سماواتها الأبله (9).
إنه صراع المواقع بين الجمال والقبح، بين عشتار، هذه الشخصية المركزية في الديانة العراقية (ميزوبوتاميا)، وهي إلهة الأنوثة والجمال، الرامزة إلى الحب والجمال والتضحية في الحرب إبان العهد البابلي، وبين الثور، وهو حيوان الإله الرمزي، وقد وسم بالبله لبيان مدى قبحه بعلة تغييب العقل، بالمقارنة إلى ملائكية عشتار.
وتضيء هذه المقابلة ما يعتمل بدخيلة الشاعر من مشاعر وأحلام منتزعة من حسه الإنساني الذي ينتصر للجمال والعطاء والحياة والحب ولإنسانية الإنسان، وينبذ الأحقاد والشرور ويرتفع عن التعصب.
ونستشعر مقدار الأمل الذي يسكنه، أمل يغذيه الحلم بغد مختلف سيرسم خرائطه على طهر إنساني يحجبه غبار الزمن الرديء:
على جفني بغيك...
نمت ترنيمة الطهر.(10)
لم يكن هدف الشاعر استنساخ ملحمة تؤوب بأصلها إلى آلاف السنين، بقدر ما كان يهدف إلى النهل من زلالها الدلالي الدافق تمثلا واعتبارا. ودليلنا على ذلك ما يطالعنا من تراسل في الأزمنة، ومن تغير في المنحى الذي يتخذه النسق الحواري، إذ يتحول الحوار في أحايين كثيرة من حوار بين شخصيتين متعايشتين إلى حوار بين شخصية من العالم العلوي (جلجامش) وأخرى من العالم السفلي (أنكيدو)، بمعنى أن الحوار بينهما يستمر إلى ما بعد وفاة أنكيدو (الموت في اللغة طبعا، وإلا فإن كليهما قد مات منذ زمن بعيد). 
أما تراسل الأزمنة وتحيين السرد فيتضح في قوله مثلا:
 في الماضي تناولت أقدمنا الطين
 واليوم قد ابتلع رغباتنا!(11)
هو، إذن، منزع التقابل بين الأمس واليوم، رجاء أن تتجدد الروح، وتتفتق الحياة من رحم الموت:
لم أفهم ترتيلة الماء حينها
ولم تهدهد لي الآية تلك السريانات
كما الشهادة(12)
لم يعد الشاعر يستسيغ عتمة الخفافيش ومكر آلهة  الظلام:
لكن آلهة الظلام سرقت قلبي
وامتثلت حجارة مكانه!(13)
ولا غدر الإخوة وخيانة المقربين:
لم أكن ابنها
كنت قربانها الأول للخلود بقلبك(14)
لقد آن الأوان لدرء الأطماع الأجنبية عن بلاد الرافدين، ونبذ الصراعات والتشرذم الداخلي، وسد هذه الثُّلَمِ التي يَتَقَحَّمُ منها الأغراب على أهل العراق، وذلك لإشاعة الروح الطيبة وتجديد العهد بالحب الذي أَخْفَتْهُ حجب النزعات والنزاعات وأَخْفَتَتْهُ أصوات البنادق، ودرست رسومُهُ بحيل المتآمرين:
تحدثني عن الغرق أم أحدثك عن الفراشة التي
حملت نهرا من الخمر على جناحيها
إنها ترقد بقربي
كما اللؤلؤة تنفست
حفتها الورد وتمايلت(15).
فالفراشة هي رمز تجدد الروح وأوبتها ورمز الحب والجمال. كلمات صغيرة تتدفق أنهارا من المعاني لتبث مشاعر النشوة والانتصار (حملت نهرا من الخمر على جناحيها)، ليتعايش الجميع في سلم وأمان.
أما اليوم، فقد غدت أرض العراق خرابا يبابا، وساحة للحروب والصور الدموية المفزعة، حتى إن الليل لم يعد ليلا ولا النهار نهارا:
آه...
أوروك
لم تعد الشمس تلعب في ضحاك،
ولا القمر يغفو على ورقك،
غنى الدخان على شفتيك ونامت مآذنك(16)
لقد اعتصر الواقع نَفْسَ الشاعر ونَفَسَهُ وهو يعاني ويعاين ألسنة الدخان تكدر خيوط الشمس وتُعَفِّي عن جمال القمر، ولم يعد أحد يتحمل مسؤولية الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المآذن الكفيلة بذلك قد هامت على وجهها ونامت وانسحبت من دورها، لينضاف تيه المثقف والعالم إلى تيه السياسي.
ولما كان الدخان أيقونة النار، فإنه لم يكتف بالغناء على شفاه العراق فحسب، بل تكلم على وجوه أهلها، ففقدوا الزمام وإشراقة ماضيهم، إذ تثاءبت الذكرى، ما يقوم حجة على فظاعة ما آلمهم وألمَّ بهم:
عندما تكلم الدخان على وجوهنا...
سالت الظنون في الصدى،
تثاءبت الذكرى... (17)
ويأبى الشاعر إلا أن يقرن الأرض بالعرض لعله يستثير في العربي شهامته الكامنة وكرامته الموؤودة، إذ شبه الأرض المستباحة بالعاهرة:
كما طفل غدت أمه عاهرة
وقد أرقت مباهج الأفق(18)
إنها صورة تقض المضاجع، صورة لعراق الانفجارات اليومية، والنيران الطائشة في كل لحظة وأوان:
طوفانا تأملنا ونحن على ساحل السُّهد نرقب
الشعاعات الثملة،
نغرس طعم النعناع... (19)
وفي ظل هذا التخبط تضيع الحقائق وتتناسل الدسائس، بل ويتآمر عليك من يقاسمك الأرومة كما تآمر الإخوة على يوسف، إذ ألقوه في الجب ونسبوا فعلتهم إلى الذئب:
قمر يتنزل كل صباح
بئرا وذئبا(20)
أما أهل العراق فضاقوا ذرعا بهذا الوضع المفجع، والمجدول بالدم والدمع، حتى إن الدموع قد تجمدت من فرط البكاء، دون أن يبالي أحد بمأساتهم:
نحن أبناء الحياة...
حملنا ورقة الموت
صفحات دموعنا
ضمها البَرَدُ (21)
وبرموا برموز الشر ورؤوس الفتنة:
خمبايا...
لم تمهل بطشته نهر الدم
ليتر قرق النهار على جفنه
غافيا
مزمرا
فجر أمنيته (22)
واضح أن الشاعر قد أفلح في تشخيص لحظته الحضارية تشخيصا جماليا معتمدا استراتيجية التقابل بين زمنين وحضارتين، فضلا عن تقابلات جزئية كثيرة كالحياة والموت، والشمس والقمر أو الليل والنهار، وبين البغي والطهر، وبين عشتار والثور الأبله، وبين الآلهة والإنسان، والأرض والسماء...وغيرها.
تقابل الدنيا والدين وتشظيات الذات.
من أعظم مشاكل الإنسان ما يعيشه من صراع دائم بين المادة والروح وبين الدنيوي والديني. ويبدو أن بلاد الرافدين أضحت مجالا أثيرا لهذه التجاذبات، بل أصبحت نقطة جذب للأطماع المختلفة التي تتربص بخيراتها في غفلة من الضمير الجمعي (23)، ونوم المآذن(24)، وفي فورة صراع المذاهب التي يدعي كل منها امتلاك الحقيقة المطلقة، على النحو الذي يوقض الفتن ويوقدها، ويفتح الباب أمام الأعداء والأغراب لزرع مشاتل الخراب. يقول الشاعر من قصيدة الأرض والسماء:
على قبابك تهامسنا
حماما مسافرا بنبوءة دمائنا
وصفصافة على شموس بساتينك غفينا،
ومضا متزهدا على جبال صدرك تغربنا
أناشيد عظيمة ببوق نصرك تراكضنا
بفرشة رسمك عظمنا شعائرنا،
آه،
بخدودنا حفرنا لأسمك آية
كان منجلها الدمع،
تحت ظلال شجرة جرحك بكينا(25)
ثم يضيف الشاعر في انتقاد مبطن للاستغلال البشع للدين سواء بتسييسه أو إساءة فهمه:
آه...
لو أن قلبك هو الليل
لذبلت شمس ظهيرتنا (26).
جلي، إذن، أن ضمور الحس الديني كان من جملة الأسباب التي أفضت بالعراق إلى هذا المآل، إذ لا نجد أثرا للديني في الدنيوي، جاء في قصيدة "ذرى":
وحدها المآذن...
تعرف حكاية الله،
وقد تخللت حياتها الحقول (27).
لا تخفى الوشيجة الرابطة بين الذرى والمآذن، وهي العلو والارتفاع، في إشارة إلى القيمة الرفيعة للدين ومركزيته في تقدم الأمم والشعوب. غير أننا نرجح أن الدين ظل منحصرا بين أسوار المساجد، أو بلغة أخرى أن الأفعال لا تصادق على الأقوال، وذلك بعلة تغليب المادي على الروحي: (تخللت حياتها الحقول)، فأي حقول يقصد الشاعر هنا؟ أيقصد حقول النفط مما يعني الانشغال بالمادي والدنيوي؟ أم يقصد حقول الألغام، إذ لم تسلم المساجد وأماكن العبادة من الانفجارات والحوادث؟ أم يقصد حقول التجارب، في إيماء إلى صراع المذاهب؟
ومهما تكن الوجهة التي يؤمها التأويل، فإن الرؤية الناظمة للنص تظل هي نفسها، ومؤداها الانتصار لإنسانية الإنسان، وتصديق ذلك قصيدة "أخرس"(28) التي تستحضر قصص الأنبياء لتتغنى بأزمنة الطهر والصفاء، على خلاف لحظتنا الحاضرة التي يوشك فيها الصراع أن يذهب بريح الأمة، يقول أحمد محمد رمضان:
عندما هُزت سبل الحطب...
تبينت سلالة فقدهم،
سماء علت العيون...
دما ونبلا،
تزينوا بنُسُكٍ
وقُتلوا بشعائر(29).
ويبدو أن الجهل قد أسهم بصورة لافتة في ترسيخ هذا الصراع وتعميقه:
كأنهم لم يسامروا
غبار القراطيس(30).
ومهما يكن من شأن، فإن صراع الخير والشر قد وُلد مع الإنسان ولن ينتهي  إلا بنهايته. ولئن كانت الخطيئة جِبِلة فيه وهي التي حرمته حلم الخلود، فإنه ينبغي أن يتجرد في ارتكابها من القصدية، وأن يحرص على التوبة عنها وعدم استسهالها مهما صغرت:
دمعتك نغمة ناي...
أثار ريش سكونه...،
خيط أبيض وأسود...،
بَشَرَين وتفاحة...،(31)
تقابل الألم والأمل والبحث عن طين الأبدية.
جاء في الديوان:
حتى...
إذا جيء بالقميص
نسيت بئر نواياك (32)
أرشح هذا النص ليكون أيقونة التخبط والارتياب، إذ يستدل الشاعر –كما هو معهود فيه- بدلائل النص المقدس من مدخل سورة يوسف، ليقابل بين الحقيقة والكذب، ويبين صعوبة الميز بينهما، ما يدعم الأجواء المفجعة التي تهيمن على الديوان وتتحكم بناصيته، على نحو جعل الإنسان يتيه عن نفسه، جاء في قصيدة وجهي:
نضارة يحملها الغروب...
قطرة ماء غريبة
دم يتردد ضحى نداه (33).
بل إن الشاعر يستعير النظرة العلائية الموغلة في التشاؤم والسخط، ليختط مذكرة لعيد الميلاد نصها:
على بقعة صفراء لورقة قديمة...
نثرني أبي
واغتسل عن الذنب (34).
ومن خلف هذا الكم من الجراح تلوح ومضات من الأمل تعفي عن مشاعر الألم التي كانت ملاك متن الديوان. ففي قصيدة "أصبع" يقابل الشاعر بين الذات والعالم، ويستحث الناس للتخلي عن سكونهم بحثا عن معنى الحياة:
في الضباب...
على النافذة رسمت خطا
يمر العالم من خلاله (35).
غير خاف أن للحياة بريقا يخترق أسجاف الأفق المظلم. بريق يحفزك على التماسها، أحيانا، من قلب الموت، لأن الحياة ستخرج منتصرة في النهاية بعد موت الموت(36) جاء في قصيدة (حياة):  
أيها الموت...
يا من تتلمس القلوب
والرمال
ستلدَغُك دودة الوقت،
كما الكبش...
وقد سافرتَ بالعالمين (37).
لا يكاد حلم الأبدية يخفت(38) حتى يعود ليتوهج من جديد، ويظهر في ثوب من يفتق الأنهار من طي الصخور:
على غدير حزنك...
غابة بقلب حجر(39).
وفي يقيني أن قوافل البشرى سيشدها الحنين إلى أرض العراق، وستعود وتعود معها تجارتها الرابحة:
وحدها شجرة قلبك...
حملت قوافل البشرى،
كما نهر...
سهرت على ضفافه النجوم(40)
وصفوة القول أن الشاعر أحمد محمد رمضان قد استطاع أن يعبر عن مواقفه مما يعيشه وطنه بأسلوب شعري تفاعلت فيه جملة من التقنيات والأدوات، وفي طليعتها البناء التقابلي الذي كان عمود لغته الشعرية، ويتجلى في الآتي:
1- التقابل بين الأزمنة: (الزمن الغابر VS  الزمن الحاضر).
2- التقابل بين الأمكنة: (أوروك VS العراق).
3- تقابل النوازع: (خير VS شر + عدل VS جور...).
4- تقابل الأشياء والصفات وغيرها: (أرض VS سماء + ظلمة VS نور...)
5- تقابل المذاهب الدينية: (شيعي VS سني...).
6- تقابل المقدس والعادي: (الآلهة VS الإنسان).
7- تقابل الشخوص: (خمبايا VS القوى المعادية للعراق في عصرنا الحالي + جلجامش VS الحكام اليوم...)
ونختم بما ختم به الشاعر قصيدته المفتاح:
دجلة على الدفوف...
تبرق فضة حلمتها،
جلجامش: تبرقها يا صديقي(41)
إن الحلمة التي كانت سببا في استباحة أرض العراق، وسببا في جذب الأطماع إليها، هي نفسها الحلمة التي أرضعت الأبطال على مر التاريخ. ولا مراء أن دجلة الخصب ودجلة العطاء ستستفيق يوما على فجر باسم. ولا تزال بلاد الرافدين قادرة على إنجاب أجيال سترفع التحدي، وتستعيد ما ضاع في غفلة من الزمن، وسيعود أحفاد السومريين والبابليين والآشوريين... والعباسيين... إلى سالف مجدهم. 














هوامش الدراسة
1- تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، محمد بازي، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، ط 1، 2010م، ص: 10.
2- م. نفسه، ص: 9.
3- الاستعارة التصورية قراءة في الأدبيات المعرفية، طارق النعمان، مجلة فصول، العددان 85-86، ربيع، صيف 2013م، ص: 471.
4- سيرورات التأويل من الهرموسية إلى السميائيات، سعيد بنكراد، الدار العربية للعلوم ناشرون، (لبنان)/ منشورات الاختلاف (الجزائر)/ دار الأمان (الرباط-المغرب)، ط 1، 2012م، ص: 248.  
5- ديوان طين الأبدية، أحمد محمد رمضان، ص: 11.
6- الديوان، ص: 13.
7- م. نفسه، ص: 7.
8- م. نفسه، ص: 7.
9- م. نفسه، ص: 8.
10- م. نفسه، ص: 8.
11- م. نفسه، ص: 11.
12- م. نفسه، ص: 11-12.
13- م. نفسه، ص: 12.
14- م. نفسه، ص: 10.
15- م. نفسه، ص: 13.
16- م. نفسه، ص: 14.
17- م. نفسه، ص: 27.
18- م. نفسه، ص: 15.
19- م. نفسه، ص:  16.
20- م. نفسه، ص:  77.
21- م. نفسه، ص: 17.
22- م. نفسه، ص: 17.
23- م. نفسه، ينظر قصيدة "أغنية خريفية" ص: 115-117.
24- م. نفسه، ص:  14.
25- م. نفسه، ص: 56.
26- م. نفسه، ص: 57.
27- م. نفسه، ص:  29.
28- م. نفسه، ص: 87-89. ومطلع هذه القصيدة:
للزيتون وهو يغفو بسلاله
سأغني...
للورقة وهي تغطي حواء...
29- م. نفسه، ص: 70.
30- م. نفسه، ص: 71.
31- م. نفسه، ص: 74.
32- م. نفسه، ص: 84-85.
33- م. نفسه، ص: 90.
34- م. نفسه، ص: 59.
35- م. نفسه، ص: 45.
36- تجمع أغلب الروايات الإسلامية على أنه يوم القيامة سيُؤْتَى بالموت في صورة كبش أملح، وسيذبح أمام الكل إيذانا بالحياة الأبدية التي لا موت بعدها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتى يوم القيامة الموت كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، فينظرون فيعرفون أنه الموت. ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، فينظرون فيعرفون أنه الموت. فيذبح بين الجنة والنار. ثم يقال: يا أهل الجنة خلود لا موت فيها ويا أهل النار خلود لا موت فيها". ينظر مثلا: دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار، عبد الرحيم بن أحمد القاضي، دار الفكر، بيروت، د ط، د ت، ص: 40. وأيضا: الدرر الحسان في البعث ونعيم الجنان، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، د ط، د ت، ص: 30.   
37- م. نفسه، ص: 28.
38- خَفُتَ هذا الحلم بسبب تقييد الحريات يقول الشاعر:
متأملة طائر الذكرى
بقفص بارد
غفت أبدية الفصول. (الديوان، ص: 43).
39- م. نفسه، ص: 44.
40- م. نفسه، ص: 58.
41- م. نفسه، ص: 18.

   


قراءة في قصة "وردة في القلب" للمبدع علي المتقي.

إنجاز: ذ. الحسين ايت مبارك

لا أشك لحظة في تماسك هذا الكلام، وتوافره على كل عناصر القص ومقومات السرد. كما لا أشك في جاذبية صوره، ولا حتى في توليفه الآسر بين الحقيقة والتخييل. فمن جملة استعاراته قوله:
- لقاء تسونامي لم تتنبأ به الأرصاد القلبية.
- زلزل كيان حياة رتيبة تقطع سنوات العقد الخامس من العمر بخطى سريعة.
- صعقة كهربائية تسري بين جوانحي.
- ورقة كنت أعتقد أن توالي الفصول أسقطها من شجرة حياتي. 
- صاح القلب الذي أفاق من صدمته.
- كان هذا الرجل مرآتي.
- كنتِ مرآتي.
- تراكمت الخطى صارت ركاما يحجب الرؤية.
ولا نعدم في النص التشبيه أيضا: (الوردة الوحيدة التي تشبهني- أحسست وكأنني عائد...) والرمز: (الوردة اليابسة)، والكناية: (أرمي الطريق ورائي خطوة خطوة- مثقلا بصخرة أمسي- أقدم رجلا وأؤخر أخرى)، وتداخل الكناية والحكمة: (الرجل يتمنى أن يستحوذ على ورود الحديقة كلها... أما المرأة فتكفيها فعلا وردة واحدة حتى لو كانت جافة يابسة). أضف إلى هذا دقة التوصيف لحالة الصدمة والانبهار، وتوظيف تقنية " الاسترجاع"، واشتغال مكون التخييل في المونولوج الداخلي، من خلال الحوار الصامت الذي تنطق به علامات الجسد وإيماءاته، على أن الكاتب حين بدأ خياله يعيد ترتيب بيت محبوبته من جديد، التبست الحقيقة بالتخييل، أو ربما هي حقيقة مضمرة نطق بها الخيال، علاوة على تراسل الأزمنة والأمكنة: (وفي ملتقى الطرق، تهت. أحسست وكأنني عائد من شارع النصر...)، ولكنك قد عدت من شارع النصر مهزوما هذه المرة. ولن ننسى أيضا إعمال النصوص الغائبة من قبيل: (دق الجرس وفتح الباب-مثقلا بصخرة أمسي –ستهتز الصحراء وتربو، وتنبت أعشابا برية فواحة...)، وغير هذا من الأدوات البلاغية والمقومات الجمالية والسردية.
عتبة العنوان:
الحب وردة. وكل كلمة أو همسة أو نظرة أو ابتسامة أو تنهيدة أو إيماءة من المحب وردة. والجار والمجرور (في القلب) لن يكون إلا تحصيل حاصل، أو قل قرينة مانعة من ترك الوردة وحدها تائهة لا تدري أين تستقر ولا أين تشد الرحال. ربما وردتك -هنا- شدت الرحال نحو المجهول، وآن لهذا المجهول أن يصير معلوما.
في رحاب الوردة:
إن قصة هذه الوردة في كلمة مقتضبة: بلاغ عاطفي بليغ.
 وفي أخرى مطنبة:
رسالة صادقة من قلب مكلوم حُشِر رغما عنه، ودون سابق ترتيب، في موقف لا يحسد عليه. 
من قلب تجاذبته كل المتناقضات.
من قلب ألقي به –على حين غرة- في بحر لجي.
من قلب عابر رحل قسرا إلى زمن دابر.
من قلب أرسل صرخة وبث نداء..
بحثا عن قلوب تجانسه وتؤانسه. 
أبت يد القدر إلا أن توقض الهاجع في ركن قصي من القلب، وتوقد فيه نارا. فما بال البلقع يفيض أنهارا؟
الحب سجية وفطرة فترت فيك لفترة، فثارت فجأة لأنه لم ولن يخطر ببال أرصادك القلبية أن ما يفصل بين الخصب واليباب، وبين الجدب وانغمار الفؤاد بأمواه من زمن الشباب هو جرس وباب. سجال جعلك تتساءل كما تساءل الشريف الرضي قبلك: من علَّم العين أن القلب يهواها؟
لم تكن العين إلا ذلك الخيط الرفيع الذي أزاح أسجاف الزمن ليكشف عن روح أُرغمت على ممارسة لعبة النسيان ارتقاء بها أو اتقاء لشرورها ونزواتها. روح راكمت الانكسار.. أَلِفت الحصار.. فطال الانتظار.
لقد وقعْتَ ضحية معادلة مستحيلة بين الحب والاختيار. فالحب سر من الأسرار، وكلما هممنا بالاختيار، توارى الحب خلف الستار.
غريبة هي الدنيا، نبحث عن أشيائنا الثمينة في كل الأماكن، ونكتشف بعد فوات الأوان أنها في مكان قريب منا، بل أقرب مما نتصور. لماذا لا نستشعر قيمة الأشياء إلا بعد فقدانها؟ لماذا نبحث عن السعادة في الأشياء وفي الآخرين وهي لا تعدو ذواتنا؟
 بطل القصة أنهى كل أحلامه ومضى ينتظر النهاية، لأنه أضاع العمر بين لحظة تردد ولحظة انتظار، وما بينهما تسلَّلَ عُمرُ الزهور وانطفأ الشاب اليافع الذي لم يعد يفيض حيوية ولا حبورا، بل فاض جنونا وتهورا. تلك عواقب يوم سارت فيه الخطى على غير هدى فأوردتك الردى، لأنك لم تحسن الإصغاء إلى الأنامل التي قرعت جدران القلب. لقد استدَرْتَ بعد أن تطاول بك المسير وأنهكك لتجد خطوك قد محته رياح الأيام، ولسان حالك يقطر توسلا: مهلا أيها الزمن مهلا، ألا ليت المسافات تُطوى ارتدادا... ألا ليت الخطايا تتوب والخطى تؤوب لأصالح نفسي على ذاتها، وأصوب مسارها، وأستجيب لنداء خافت أخصب الفؤاد، لكن الخطايا أَنِفَتْ والخطى استنكفت لأنني لم أكن كما قال الشاعر: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة، بل كنت "جبانا مترددا حائرا".
كرهت جبني وترددي بسبب من لعبة الجرس والباب. هذا المتناص الذي اهتدم ظلال الماضي في حركة نوستالجية تلبست بالزمن الجميل: الزمن المدرسي البوكماخي بإيحاءاته الطفولية البريئة، والزمن العاطفي الذي بدأت ذبذباته تخفت، لولا أن دق الجرس وفتح باب الأمل، ليجد الكاتب نفسه أمام قدر صادم، أمام انبعاث جديد، أرضه اليباب تفجرت عيونا ومنابع، وسماؤه أومضت بإشراقة من الماضي البعيد. إشراقة تحمل بين أطوائها كل عنفوان اللحظة وصخبها ولهبها الحارق. فكيف يقوى على مقاومتها إذا كان الزمن نفسه لم يفعل ذلك ولا استطاع أن يسحب عنها ألقها وجاذبيتها: (إنها هي بكل مواصفاتها، لم يغير الزمن منها شيئا... صفحة وجهها مازالت كما عهدتها بلا تضاريس ولا تجاعيد...). فكان من البداهة أن تتجاذبك الرغبات (عناق- ضحك- بكاء- صراخ). صدمة فصدام أهواء فعودة الهدوء للأنواء، ثم تحية: (- أحسست بيدي تسبق هواي إليها مسلمة... التقت يدانا والتصقت ببعضهما). تحية خاصة وخالصة انغرست في عمقها الروحي وأضربت عن راهنيتها لتجعل المستقبل يصافح الماضي.
 الواضح أن أجمل ما أثث هذه القصة هو تلك الومضة التي اخترقت دياجير عُمُرٍ رتيب. ومضة أولقاء يفيض بالأحاسيس المستكنّة، وينبئ بهدير من العواطف المقموعة. وهو- مع كل هذا التدفق العاطفي الجارف والمبهر- يستضمر أنانية تستبد بقلب كل من ينتمي إلى بني الإنسان. هي من جنس المخفيات ولكنك أزحت عنها الحجاب بصدق وشجاعة، آيتها النفسية حب التملك، وعلاماتها اللفظية تعبئة خيالك لإعادة ترتيب بيتها من جديد وكأنك صاحبه، وتخيلك وفاة صاحبه الأصلي. كل ذلك من أجل أن يكون حبك الأخير للحبيب الأول، لأنك نّقلت فؤادك حيث شئت من الهوى فلم تجد أحسن من الحبيب الأول (مرآة تبدو فيها، رجولتك أكمل)..
أحسب الوعي عاجزا عن إنشاء هذا الشعور بل هذا الدستور، لولا أن تضافر مع اللاوعي، فأفصحا عن رغبة في استرداد قلب انفلت من سلطة صاحبه وتسلل من نفوذه في عز الشباب. قلب يختصر العالم ويمثل أيقونة المجد الأثيل والزمن الجميل.
ومضة عابرة، إذن، فجرت جبلا من الذكريات الغابرة، أرخت العنان للطفل الصغير الثاوي فيك وفينا ليتحدث ببراءة وتلقائية وليفرغ صوته حبرا صارخا، تخضب بالقيم الإنسانية وتلون بكل ألوان الصدق، ليراهن على لغة تشف عن روح توارت خلف جروحها لثلاثين سنة.
إني أشفق لحال هذا القلب الذي استطاع أن ينوء بكل هذا الزمن الثقيل، وأغبطه في الآن ذاته، لأنه كان سببا في الألم اللذيذ الذي فتق هذا الإبداع. وفي يقيني أنه سيحرك فتنة نائمة في قلب كل من يقرأه، ويبعثر أوراقا يصر الكل على نسيانها أو تناسيها.
أتصور أيها الزمن أنك قد ارتحت الآن.. هاهي الحكاية التي ابتدأت  بالتردد والحيرة قد انتهت بالبكاء والحسرة.. وتبدد معها إحساسك بأن الحكاية تعوزها النهاية...
حكاية فَارَقَتْ فيها الوردة أريجها، فَرَاقَتْكَ وأَرَّقتك، فأصررت على استئناف بعض فصولها.
أما أنت يا صاحبي فأحتفظ لك بألف سؤال وسؤال:
-أكان البوح عزاء وبحثا- كما قلت بداية- عن قلوب تجانسك وتؤانسك، أم أملا في استعادة الورقة، بل الفصول التي أسقطها توالي الفصول من حكايتك؟
- هل تأكدت أن الصور تثير مالا تثيره ظلالها؟[1].
- هل تعلمت كيف تفتق من صخرة أمسك أنهارا؟
- هلا استطعت أن تخبر الشباب- إن عاد يوما- بما فعل المشيب؟
               ا،اأنا                    
 

 
  





[1] - إشارة إلى تعجبك مما أثاره لقاؤك بالحبيبة (الصور) من مشاعر، مع أنك تتصفح ألبومك (ظلال الصور) بين الحين والحين دون أن تشعر بمثل ما شعرت به في اللقاء المباشر.