الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

قراءة في قصة "وردة في القلب" للمبدع علي المتقي.

إنجاز: ذ. الحسين ايت مبارك

لا أشك لحظة في تماسك هذا الكلام، وتوافره على كل عناصر القص ومقومات السرد. كما لا أشك في جاذبية صوره، ولا حتى في توليفه الآسر بين الحقيقة والتخييل. فمن جملة استعاراته قوله:
- لقاء تسونامي لم تتنبأ به الأرصاد القلبية.
- زلزل كيان حياة رتيبة تقطع سنوات العقد الخامس من العمر بخطى سريعة.
- صعقة كهربائية تسري بين جوانحي.
- ورقة كنت أعتقد أن توالي الفصول أسقطها من شجرة حياتي. 
- صاح القلب الذي أفاق من صدمته.
- كان هذا الرجل مرآتي.
- كنتِ مرآتي.
- تراكمت الخطى صارت ركاما يحجب الرؤية.
ولا نعدم في النص التشبيه أيضا: (الوردة الوحيدة التي تشبهني- أحسست وكأنني عائد...) والرمز: (الوردة اليابسة)، والكناية: (أرمي الطريق ورائي خطوة خطوة- مثقلا بصخرة أمسي- أقدم رجلا وأؤخر أخرى)، وتداخل الكناية والحكمة: (الرجل يتمنى أن يستحوذ على ورود الحديقة كلها... أما المرأة فتكفيها فعلا وردة واحدة حتى لو كانت جافة يابسة). أضف إلى هذا دقة التوصيف لحالة الصدمة والانبهار، وتوظيف تقنية " الاسترجاع"، واشتغال مكون التخييل في المونولوج الداخلي، من خلال الحوار الصامت الذي تنطق به علامات الجسد وإيماءاته، على أن الكاتب حين بدأ خياله يعيد ترتيب بيت محبوبته من جديد، التبست الحقيقة بالتخييل، أو ربما هي حقيقة مضمرة نطق بها الخيال، علاوة على تراسل الأزمنة والأمكنة: (وفي ملتقى الطرق، تهت. أحسست وكأنني عائد من شارع النصر...)، ولكنك قد عدت من شارع النصر مهزوما هذه المرة. ولن ننسى أيضا إعمال النصوص الغائبة من قبيل: (دق الجرس وفتح الباب-مثقلا بصخرة أمسي –ستهتز الصحراء وتربو، وتنبت أعشابا برية فواحة...)، وغير هذا من الأدوات البلاغية والمقومات الجمالية والسردية.
عتبة العنوان:
الحب وردة. وكل كلمة أو همسة أو نظرة أو ابتسامة أو تنهيدة أو إيماءة من المحب وردة. والجار والمجرور (في القلب) لن يكون إلا تحصيل حاصل، أو قل قرينة مانعة من ترك الوردة وحدها تائهة لا تدري أين تستقر ولا أين تشد الرحال. ربما وردتك -هنا- شدت الرحال نحو المجهول، وآن لهذا المجهول أن يصير معلوما.
في رحاب الوردة:
إن قصة هذه الوردة في كلمة مقتضبة: بلاغ عاطفي بليغ.
 وفي أخرى مطنبة:
رسالة صادقة من قلب مكلوم حُشِر رغما عنه، ودون سابق ترتيب، في موقف لا يحسد عليه. 
من قلب تجاذبته كل المتناقضات.
من قلب ألقي به –على حين غرة- في بحر لجي.
من قلب عابر رحل قسرا إلى زمن دابر.
من قلب أرسل صرخة وبث نداء..
بحثا عن قلوب تجانسه وتؤانسه. 
أبت يد القدر إلا أن توقض الهاجع في ركن قصي من القلب، وتوقد فيه نارا. فما بال البلقع يفيض أنهارا؟
الحب سجية وفطرة فترت فيك لفترة، فثارت فجأة لأنه لم ولن يخطر ببال أرصادك القلبية أن ما يفصل بين الخصب واليباب، وبين الجدب وانغمار الفؤاد بأمواه من زمن الشباب هو جرس وباب. سجال جعلك تتساءل كما تساءل الشريف الرضي قبلك: من علَّم العين أن القلب يهواها؟
لم تكن العين إلا ذلك الخيط الرفيع الذي أزاح أسجاف الزمن ليكشف عن روح أُرغمت على ممارسة لعبة النسيان ارتقاء بها أو اتقاء لشرورها ونزواتها. روح راكمت الانكسار.. أَلِفت الحصار.. فطال الانتظار.
لقد وقعْتَ ضحية معادلة مستحيلة بين الحب والاختيار. فالحب سر من الأسرار، وكلما هممنا بالاختيار، توارى الحب خلف الستار.
غريبة هي الدنيا، نبحث عن أشيائنا الثمينة في كل الأماكن، ونكتشف بعد فوات الأوان أنها في مكان قريب منا، بل أقرب مما نتصور. لماذا لا نستشعر قيمة الأشياء إلا بعد فقدانها؟ لماذا نبحث عن السعادة في الأشياء وفي الآخرين وهي لا تعدو ذواتنا؟
 بطل القصة أنهى كل أحلامه ومضى ينتظر النهاية، لأنه أضاع العمر بين لحظة تردد ولحظة انتظار، وما بينهما تسلَّلَ عُمرُ الزهور وانطفأ الشاب اليافع الذي لم يعد يفيض حيوية ولا حبورا، بل فاض جنونا وتهورا. تلك عواقب يوم سارت فيه الخطى على غير هدى فأوردتك الردى، لأنك لم تحسن الإصغاء إلى الأنامل التي قرعت جدران القلب. لقد استدَرْتَ بعد أن تطاول بك المسير وأنهكك لتجد خطوك قد محته رياح الأيام، ولسان حالك يقطر توسلا: مهلا أيها الزمن مهلا، ألا ليت المسافات تُطوى ارتدادا... ألا ليت الخطايا تتوب والخطى تؤوب لأصالح نفسي على ذاتها، وأصوب مسارها، وأستجيب لنداء خافت أخصب الفؤاد، لكن الخطايا أَنِفَتْ والخطى استنكفت لأنني لم أكن كما قال الشاعر: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة، بل كنت "جبانا مترددا حائرا".
كرهت جبني وترددي بسبب من لعبة الجرس والباب. هذا المتناص الذي اهتدم ظلال الماضي في حركة نوستالجية تلبست بالزمن الجميل: الزمن المدرسي البوكماخي بإيحاءاته الطفولية البريئة، والزمن العاطفي الذي بدأت ذبذباته تخفت، لولا أن دق الجرس وفتح باب الأمل، ليجد الكاتب نفسه أمام قدر صادم، أمام انبعاث جديد، أرضه اليباب تفجرت عيونا ومنابع، وسماؤه أومضت بإشراقة من الماضي البعيد. إشراقة تحمل بين أطوائها كل عنفوان اللحظة وصخبها ولهبها الحارق. فكيف يقوى على مقاومتها إذا كان الزمن نفسه لم يفعل ذلك ولا استطاع أن يسحب عنها ألقها وجاذبيتها: (إنها هي بكل مواصفاتها، لم يغير الزمن منها شيئا... صفحة وجهها مازالت كما عهدتها بلا تضاريس ولا تجاعيد...). فكان من البداهة أن تتجاذبك الرغبات (عناق- ضحك- بكاء- صراخ). صدمة فصدام أهواء فعودة الهدوء للأنواء، ثم تحية: (- أحسست بيدي تسبق هواي إليها مسلمة... التقت يدانا والتصقت ببعضهما). تحية خاصة وخالصة انغرست في عمقها الروحي وأضربت عن راهنيتها لتجعل المستقبل يصافح الماضي.
 الواضح أن أجمل ما أثث هذه القصة هو تلك الومضة التي اخترقت دياجير عُمُرٍ رتيب. ومضة أولقاء يفيض بالأحاسيس المستكنّة، وينبئ بهدير من العواطف المقموعة. وهو- مع كل هذا التدفق العاطفي الجارف والمبهر- يستضمر أنانية تستبد بقلب كل من ينتمي إلى بني الإنسان. هي من جنس المخفيات ولكنك أزحت عنها الحجاب بصدق وشجاعة، آيتها النفسية حب التملك، وعلاماتها اللفظية تعبئة خيالك لإعادة ترتيب بيتها من جديد وكأنك صاحبه، وتخيلك وفاة صاحبه الأصلي. كل ذلك من أجل أن يكون حبك الأخير للحبيب الأول، لأنك نّقلت فؤادك حيث شئت من الهوى فلم تجد أحسن من الحبيب الأول (مرآة تبدو فيها، رجولتك أكمل)..
أحسب الوعي عاجزا عن إنشاء هذا الشعور بل هذا الدستور، لولا أن تضافر مع اللاوعي، فأفصحا عن رغبة في استرداد قلب انفلت من سلطة صاحبه وتسلل من نفوذه في عز الشباب. قلب يختصر العالم ويمثل أيقونة المجد الأثيل والزمن الجميل.
ومضة عابرة، إذن، فجرت جبلا من الذكريات الغابرة، أرخت العنان للطفل الصغير الثاوي فيك وفينا ليتحدث ببراءة وتلقائية وليفرغ صوته حبرا صارخا، تخضب بالقيم الإنسانية وتلون بكل ألوان الصدق، ليراهن على لغة تشف عن روح توارت خلف جروحها لثلاثين سنة.
إني أشفق لحال هذا القلب الذي استطاع أن ينوء بكل هذا الزمن الثقيل، وأغبطه في الآن ذاته، لأنه كان سببا في الألم اللذيذ الذي فتق هذا الإبداع. وفي يقيني أنه سيحرك فتنة نائمة في قلب كل من يقرأه، ويبعثر أوراقا يصر الكل على نسيانها أو تناسيها.
أتصور أيها الزمن أنك قد ارتحت الآن.. هاهي الحكاية التي ابتدأت  بالتردد والحيرة قد انتهت بالبكاء والحسرة.. وتبدد معها إحساسك بأن الحكاية تعوزها النهاية...
حكاية فَارَقَتْ فيها الوردة أريجها، فَرَاقَتْكَ وأَرَّقتك، فأصررت على استئناف بعض فصولها.
أما أنت يا صاحبي فأحتفظ لك بألف سؤال وسؤال:
-أكان البوح عزاء وبحثا- كما قلت بداية- عن قلوب تجانسك وتؤانسك، أم أملا في استعادة الورقة، بل الفصول التي أسقطها توالي الفصول من حكايتك؟
- هل تأكدت أن الصور تثير مالا تثيره ظلالها؟[1].
- هل تعلمت كيف تفتق من صخرة أمسك أنهارا؟
- هلا استطعت أن تخبر الشباب- إن عاد يوما- بما فعل المشيب؟
               ا،اأنا                    
 

 
  





[1] - إشارة إلى تعجبك مما أثاره لقاؤك بالحبيبة (الصور) من مشاعر، مع أنك تتصفح ألبومك (ظلال الصور) بين الحين والحين دون أن تشعر بمثل ما شعرت به في اللقاء المباشر. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق