الأربعاء، 30 مارس 2016

نزيف الأجنحة: قراءة في "العصفور الصغير" لإلياس أبو شبكة.

نزيف الأجنحة: قراءة في "العصفور الصغير" لإلياس أبو شبكة.
د. الحسين ايت مبارك
كلية اللغة العربية
مراكش- المغرب
لا تكاد تنخرط في قراءة هذا الكتاب/ الديوان الذي أصدرته مجلة "الدوحة" مرفقا بعددها الأخير، وقَدَّم له الناقد عبده وازن حتى تحتلك جملة من الأحاسيس والانطباعات؛ إذ لا يمكن للعين أن تخطئ عنوانه المثير، ولا أن تذهل عن مُضيّ القصائد دامعة في ركاب أحزان الشاعر وأدرانه.  
هي تيمة "الألم"، إذا، بوجهين قاتمين؛ يتلبس أحدهما برمزية السلطة الأبوية المفقودة، ويتعاور ثانيهما صراع الأزلي والزائل (صراع الهواجس الدينية والنزوات الشيطانية).
فكيف حالك أيها العصفور الصغير؟ أيها الطفل العابث والحالم؟ أينسحب عليك قولهم: ماعلا طير وارتفع إلا كما ارتفع وقع؟
نعم، لقد استجاب وقوعه للتوقع؛ حياة مضطربة ومتناقضة، وعمر أقصر من فستان مراهقة.
لقد مكنتنا هذه المختارات من أن نستوشي روحا متناكفة المنازع، يمزقها سجال الخطيئة والتكفير، حتى إن النقد لم يستطع أن يستجمع أطرافه لِيُجْمِعَ إزاء هذه التجربة على رأي واحد، فاتجه فريق إلى إحلال الشاعر عنان السماء، فيما لم تجد ثلة أخرى غضاضة في أن تهوي به إلى الحضيض وتسمه بالسفالة والقذارة والكفر.
ويحق لنا أن نتساءل، بداية، ما العلاقة بين الديوان وعنوانه؟
أبو شبكة والعصفور.
تشف عتبة العنوان عن تناغم لافت بين الشاعر والعصفور، نذكر بعض مظاهرها في الآتي:
- تشاكل روح الشاعر الطائشة مع ما درجت عليه الأعراف العربية من وصف الإنسان الطائش والسفيه بِحِلْمِ العصفور.
- وقوع العصفور الصغير فريسة السهام، فهو سهل الانقياد. والشاعر وقع فريسة اللوم والآلام في الآن معا.
- إحالة العصفور على معاني السيادة والملك. والشاعر سيد مشاعره، وملِكٌ لا يُنازع أو يُدافع في مجاله.
- طيران العصافير يحيل إلى حرية الشاعر وانطلاقه؛ إذ يمخر عباب بحر بلا ضفاف، هو بحر الشهوة والنزوة.
- بحث العصافير عن رحيق الأزهار يجعل حبوب اللقاح تنتقل من زهرة إلى أخرى، فتنثر الحياة هنا وهناك. والشاعر مثل زهرة تذوي ليستمتع الآخرون.
- وإذا أضفنا إلى هذا ألفة العصافير وحفظها لتوازنات البيئة، وبعثها البهجة في النفوس بتغريدها، فهمنا أن عنوان هذا الديوان لا يعدو أن يكون معادلا موضوعيا أو جماليا لشخصية رقيقة وخدومة، أطربت مريديها بما عزفته من ألحان شعرية شجية، أنزلت الأحلام الإنسانية من عليائها وخفضت لهم جناحها، وللناس في هذه الشخصية مآرب أخرى...
أبو شبكة في شباك الآلام.
ينطق "العصفور الصغير" بأسرار روح مكلومة، ويجهر بفوضى تستوطن الأعماق، وتكشف عن جروح تنوء بها الحروف. كما يخبرنا الديوان بهموم فرد يختزل جمعا، ويستفرغ معاني الآلام في معالي الكلام؛ فقد سافر الشاعر في ذاته، وارتحل بين شعاب الروح ليهدي إلينا رحيق تجربة يجترها الجُمَّاء الغفير منا، دون أن نقوى على الارتفاع بها إلى يفاع الاستبصار، وإلى نور التجلي والإظهار.
فلا غرابة إن جنح إلى "الدفاع عن "الألم""، أو سقى شعره بماء القلب والعين معا. فالألم هو النواة المركزية لأشعاره (motive)، ولا أدل على ذلك من قصائده التي تهتف بعنوانات لا تصدف عن هذه "النواة" كغرفة الحزن"، و"جرس الحزن"، و"العذاب الحي"، و"القاذورة"، و"دعيني أموت" و"الحزن والجمال"، و"أيها الظلم"، و"الطير السجين"، و"هذه الدنيا سآمة"، و"انْفِ عنك الأحزان"، فضلا عن أن لغة أشعاره تقطر دما، وتصدر عن غلالة وجدانية مرهفة، ونفسية مرهقة؛ إذ أصبح الشعر معه، كما يقول الناقد عبده وازن: "شعر الذات". شعر يرصد كل ما يتعاور الكائن الإنساني من "ضعف وحيرة وخزي وإثم وندم ورفض وعنف ورقة وإيمان...". لذلك ألفينا السبل قد التبست عليه، وهو يتساءل: أيكون الهوى بقلبي خطايا؟ أو حين يصرف ألحاظنا إلى "صلاة المغيب"، المسكونة بخوف كاشف عن تأرجح صارخ بين الإثم والتوبة، وبين التوجس من العَذَاب، والتأنس بما مضى من اللحظات العِذَاب.
ونزداد اقتناعا بتخبطه حين يطالعنا بارتعاشة صوفية، يقول فيها: أنتِ أم أنا؟ ويتداخل فيها صوته بصوت المتنبي، عادلا بمتناصه من التقرير إلى الاستفهام: ومن في الهوى يُمْلَى عليه ومن يُمْلِي؟
لقد مزق أبو شبكة أسجاف روحه ونفسه، وجاس دياجيرهما، ليبوح بجرائره وجرائمه، ويبين عما استكَنَّ في الخفايا من خطايا، الأمر الذي يرسخ مفهوما جديدا للكتابة في عصره، يفيد تعرية الذات والكشف عن مخبوءاتها في جرأة تعلن التمرد على النظريات الأدبية والمواثيق النقدية، التي أبت إلا أن ترسخ وهما مؤداه أن "أعذب الشعر أكذبه"، فجاءت مقطوعته "أعذب الشعر" ذوب روحه وثوب جبلته، وتساكنت فيها صنوف الصنعة البلاغية واللغة البيانية، من جناس: (أقول لقلبي – وفي قلبها)، (وإن نطقت-إن نطق)، وطباق: (ما أصدق الندى- ما  أكذب الورق)، (ما أبلغ الشعر صامتا- ما أعذب الشعر إن نطق)، وصور شعرية: (كأنك ممدود بخيط من القلق- ما أكذب الورق- الشعر الصامت – مررت بألوان الكلام- كغيم خفيف يمسح النور وجهه...)، فضلا عن الحوارية: (أقول لقلبي). والنداء: (يا بصري – يا شعراء الأرض- يا أذن)، والنفي: (ما خفق)، والأمر: (حِدْ مرة عن طريقها – عَلَّمْ)، والتعجب: (ما أصدق الندى! – ما أكذب الورق!- ما أعذب الشعر إن نطق!). والشرط: (إذا ابتسمت ليلى- إن نظرت)، والنهي: (لا تَخْدَعْكٍ)... ليخلص إلى نتيجة ناسفة لما رسخ في الأعراف النقدية، من خلال قوله: ويا قلبُ عَلَّمْ: أعذبُ الشعرِ ما صَدَقْ.
وقوله أيضا:
اجرحِ القلب واسقِ شعرك منه
مصدر الصدق في الشعور هو القل
وإذا أنت لم تُعَذَّبْ  وتَغْمِسْ
فقوافيك زخرف وبريق (...)


فَدَمُ القلب خمرةُ الأقلام
ـب وفي القلب مهبط الإلهام
قلما في قرارة الآلام

جمالية المطابقة وصناعة المفارقة.
لولا أخاديد حفرتها الأيام والآلام في دخيلة الشاعر لما استمعنا، ولا استمتعنا بهذا العزف المتفرد، والمشبوب بعاطفة الحزن، ولسان الصدق، وجمال المفارقة.
فلئن انزاحت الكلمات عن حيزها المنطقي إلى الحيز الجمالي، فإن محمولها ظل مشدود الوثاق إلى الصدق، يوثق حقيقة الشاعر المتناقضة، ويجمع "بين النزعة الرومنطيقية والمدرسة الرمزية، بين الصوفية والتجربة الشهوية".
ويبدو أنه عاش غربة نفسية قاتلة، بكى بسببها الحال والمآل:
ماذا دهاه اليوم؟ الشهوات تعرف ما دهاهْ
ولكن سمعت الورد، ينكر فيسأل: "مَنْ تُرَاهْ؟"
والفجر، أصبح يعرف الدنيا جميعا... مَا عَدَاهْ.  
إنها مشاعر التيه والريبة، التي امتدت أيضا إلى أحب الناس إليه: وأخشى أن يصير الغزال، يامَيُّ، ذيب. ولعله يصر على صنع المفارقة، وهو الذي تغنى بحبيبته، وبنور حُسنها الذي أَبَرَّ على نور النجوم:
فإذا ما النجوم أبدت شعاعا




فشعاعٌ من حسنه يخفيه


كما أن حبها طالما سهده، "فسهر الظلام يرعى هواها".
انعكست تلك المشاعر على أشعاره، مع أنه يجهل سر كل هذه الآلام التي تنطوي عليها النفس البشرية، والمجترحة من توالي أيام العمر، ومن تعاقب فصول الطبيعة:
أيا جَرْسًا في هوة الدمع ناحبا
 

نحيبك ألحان الطبيعة والعمرِ

سمعتك جهرا تسكب الدمع في الورى



ولكن هذا الجهر روح من السر

بهذا الفهم، تُزْهِرُ أسرار نفس الشاعر في ذبذبات الصوت الناضح بالجروح، وتثوي خلف البوح روح منكسرة، ومتمردة، وحائرة، تدثرها المفارقات التي تتجاوز هذا الديوان إلى غيره. فديوانه "أفاعي الفردوس"، مثلا، يصدع بهذه المفارقة بين واقعه الموبوء الذي تحف به الأفاعي، وحلمه الطاهر بالفردوس المنشود. إنها مفارقة تستخبر كمية الشر التي تنطوي عليها الضمائر المستترة، وتجعل من الفردوس زهرة متمنعة تحيط بها الأشواك من كل جانب.
وأكثر من ذلك أن "المفارقة" تمتد امتداد كل لحظة من حياته؛ تمتد بين أمسه ويومه، وبين حاله ومآله، بل أدعي أنها تلازم كل لحظة من لحظاته:
- في عينيه من أمسه الأثيم حطام.
- فبكى ذاكرا عذوبة ماضيه.
يتحرك أبو شبكة بوازع من "ضمير الأثيم" الذي لا يهدأ. ولئن سألناه: تُرَى من يكون هذا الضمير؟ يبادر إلى الإجابة: ويح ضميري ليس هذا الجلاد إلا فؤادي!.
لقد أنضج صاحبنا تجربته "على نار المعاناة والألم"، واستقطر خلاصة روح متوترة ومتأثرة، وغمس قلمه في دواة النفس ليختط الندوب والفجائع، ويرتقي بها إلى مستوى "الجوهر" أو "الأمة الأزلية"، جاعلا من الطبيعة "جَوَّهُ الفسيح، تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه، وكذب على نفسه".
ولا جرم، فالشعر "سليل النفْس والنفَس"، وآلام نفسه "جمرة يستطير منها السعير".
الدمع وسؤال التطهير.
يقول أبو شبكة:
ومرارا لَزِمْتُ غرفة يأسي
غرفة الحزن، أنت تحوين صدرا


أنظم الشعر والهوى يمليه
كل ما في الوجود لا يحويه

  لقد ضاق الشاعر بالوجود ذرعا، وضاق به الوجود بما رحب. ومع ذلك، نلحظ إصراره العجيب، وإلحاحه على حب العذاب وعشق البكاء والدمع.
ولما كان الألم والدمع سليل الليل، والليل أيقونة الهم والتأمل في عرف الشعراء، فلا عجب أن يُشَعْرِنُ صاحبنا تأملاته، وهو الذي يؤمن أن "الشاعر قد يطرق باب الفلسفة" دون أن "ينحط عن الشعر". ولا عجب أيضا أن ينتصر لأبي العلاء، وهو "يقحم الفلسفة في شعره فيناقش فيها كالمعلم العالم".
ويبدو أنه استوحى منه فكرة أن دمع الشعر يغسل درن الأرض، كما استوحى منه أفكارا أخرى كثيرة، منها قوله:
خففي اليوم وطء مشيك كيلا


يصبح المشي نَقْلَةَ الراقصينا

في قصيدة "الحزن والجمال" التي تَرَسَّمَ فيها خطى معلقة عمرو بن كلثوم، إيقاعا ورويا.
لقد أَلِفَ الشاعر البكاء، حتى إنه صهر شعره دمعا:  
فدمعي شعر يقرأون سطوره


ودمعكِ أبيات من الشعر صامتهْ

وفي تصوري أن الشاعر كان يستشعر دنو أجله، الأمر الذي حدا به إلى اللواذ بدمع الهوى، فهو الضامن للشيوع والتداول، لأنه "من بنات الخلود".
سقط أبو شبكة ضحية "التناقض" اجتماعيا، و"المفارقة" إبداعيا، على نَحْوٍ "أذاقه العلقم، وأذاب قلبه كالشمع، وجفف عروقه من الدم". فقد رسف في شراك الخطيئة، وحلم بتخطيها، واستمسك بالأمل في ذروة الألم.
ومع أن العمر لم يسعفه، ولم يمهله إلا سنوات معدودات، فقد أطلق صرخات مدوية، خلفت في ديوان الشعر العربي صدى أزليا، ووضعت على جسده وشما خالدا؛ إذ عانى الجهد وعانقه لنعاين الشهد ونتذوقه.  
 

  

  

الاثنين، 14 مارس 2016

تائية حافظ إبراهيم وتائية المختار السوسي في اللغة العربية: قراءة مقارنة.

تائية حافظ إبراهيم وتائية المختار السوسي في اللغة العربية:
قراءة مقارنة.

د. الحسين ايت مبارك.
توطئة:
لا يتأتى الحديث عن الحضارة إلا في علقتها بالقيم والإنسان. والأدب بوصفه وجها من الوجوه الحضارية المشرقة يكتنز صورا إنسانية متعددة، وهواجس وهموم محايدة، لا تشي بهوية خاصة أو تعكس ملامح محددة، وإنما تنسلك في دائرة المشترك الإنساني.
 ولئن كانت اللغة –كما يرى إبراهيم أنيس- هي "أس الأساس في كل قومية"[1]، فلا عجب أن تحتل منطقة الجذب وتتسلل إلى صدارة الهواجس المحفزة للجوارح واليراع والمستفزة للقرائح والإبداع.
هذا شأن العربية التي استوت في أفق سَنِي، وهذا ما تقدحه في وجدان أهلها، كلما تكررت محاولات التربص بها، لإنزالها من موقعها المنيف. فكان الشعر ميدانا للرهان وتباري الخواطر في الدفاع عنها والذود عن الهوية العربية بكل إحالاتها وإيحاءاتها.
 ويبدو أن اتخاذ العربية تيمة مركزية تؤالف بين نصين أو أكثر، تستدرج الجمهور إلى الانخراط في جدل لا ينتهي عن الأصل والفرع، والصوت والصدى، والإبداع والاتباع، والتقليد والتجديد، وما إلى ذلك من قضايا تستهلك أحاديث الناس وجهودهم، وتصرفهم عن المقاصد الكبرى للخطابات الأدبية. 
ولعل نزوعي إلى المقارنة بين تائيتي حافظ إبراهيم والمختار السوسي في الدفاع عن اللغة العربية أن يكشف عن زيف هذا الجدل وما يستضمره من قراءات هامشية انشغلت بمراكمة الآراء ومحاكمتها وبإثبات المعارضة أكثر مما اهتمت بمساءلة هموم الخطاب.
1- سبل الهجرة النصية من المشرق إلى المغرب:
إن استرفاد التجربة الإبداعية المغربية من نظيرتها المشرقية –إبان عهود طويلة- حقيقة أرسخ من أن يطمسها شاك أو متردد؛ إذ لم ينفك المغاربة عن التأسيس للمرجع، عبر  تهجير الأنموذج المشرقي ليصير منبعا لإنتاجاتهم ومهيعا لإنجازاتهم. غير أن هذا السَّنن قد تعَدَّلَ بانفتاح النص المغربي في حواره على قطب جديد هو القطب الغربي، وإن كانت رياح الغرب قد هبت علينا من المشرق أيضا، وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين، وذلك قبل أن يتخذ النقل عن الغرب صيغا وأشكالا جديدة، على أن "مثل هذه الحركة الانتقالية إلى بيئة جديدة لا تتم دون عوائق أبدا، بل تنطوي، بالضرورة، على عمليات من التمثل والتأسيس، حيث تختلف هذه العمليات عن تلك القائمة عند نقطة المنشأ. وهذا ما يضفي التعقيد على أية محاولة لوصف عملية انتقال النظريات والأفكار، بواسطة "الزرع" و "النقل" أو التحويل، والدوران، أو التداول، والتبادل الفكري".[2]
فارتحال النظرية يستلزم قرائن للانتقال من نقطة المنشأ إلى نقطة تالية في الزمان والمكان، بغية إحراز شهرة جديدة تضمن لها شروط التقبل والألفة والتداول.
ولا مراء أن التلاقح الثقافي أو التنافذ قد تم عبر قنوات عديدة، حسبنا أن نذكر منها: الصحافة والتآليف والرحلات وتبادل الزيارات والبعثات العلمية والترجمة والقنوات الإذاعية، فضلا عن المدارس والجمعيات التي قامت بدور لافت في رسم الخريطة الثقافية المغربية. إلا أن هذا لا يمنع من النظر إلى الخصوصيات بكثير من الاعتبار، ومجافاة الأحكام القطعية اليقينية المشبعة بمفاهيم التماثل والتشابه والاستنساخ، إذ لم تكن "الخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، متماثلة في العالم العربي، حتى يمكن أن يجريها على فضاء شاسع"[3]، بالإضافة إلى استحالة معالجة الأدب "دون التعرض لتيارات السلفية والليبرالية والعقلانية والمثاقفة والهجرات والاستعمار والحروب والوطنيات الخ، شريطة أن لا يتحول الدرس الأدبي إلى مجرد درس تاريخي وصفي، أو جغرافي، حبيس النظرة الأحادية إلى الأشياء"[4].
تحفزنا هذه المعطيات على إحلال المؤثرات والمقاصد محلا مناسبا في أي مقارنة أدبية، بصرف النظر عن وجوه القطيعة والتقاطع بين التيمات أو الأساليب. 
2- بيوغرافية الشاعرين:
2-1- حافظ إبراهيم: يذهب أحمد أمين[5] في مقدمة ديوان حافظ إبراهيم إلى أن تاريخ ميلاده مجهول، وأن القول بميلاده يوم 4 فبراير 1872م ضرب من التخرص والتخمين.
ولد على متن سفينة بالنيل بالقرب من قناطر (ديروط) بالصعيد من أب مصري صميم وأم تركية. ولعل من الإرهاص اللطيف والإيماء الطريف، ومن مشيئة القدر ألا يولد شاعر النيل إلا على صفحة النيل.
 اشتغل حافظ بمهنة المحاماة، وتخرج من المدرسة الحربية ليشتغل بالجيش. وظل يتنقل بين المناصب فالتحق بالداخلية، ثم سافر إلى السودان فتبرم منها ليعود إلى مصر حيث ليالي الأنس، والتحق بدار الكتب. كان ملما باللغة الفرنسية كما نبغت شاعريته نبوغا ملحوظا، مع أن مناصبه كانت تشغله وتصرفه عن قول الشعر. وقد كان بمعية البارودي وشوقي من زعماء التيار التقليدي المحافظ (الكلاسي). توفي سنة 1932م.
2-2- المختار السوسي: ولد المختار بن علي الدرقاوي سنة 1903م بقرية إلغ، وهي السنة التي أنشد فيها حافظ إبراهيم قصيدته التي نحن بصدد دراستها. نشأ ببيت ناضح بالتصوف (زاوية دينية للطريقة الدرقاوية)، ذلك أن أباه كان شيخا لهذه الزاوية، وأمه مثقفة، كانت سببا في حفظه للقرآن وتعلمه الكتابة. التحق بالمدرسة الإفرانية ليتلقى تعليمه الابتدائي عن الشاعر المغربي الطاهر الإفراني، وعن الأستاذ عبد الله بن محمد كبير علماء قريته. تابع دراسته بجامع ابن يوسف بمراكش، وأخذ فيها عن الأستاذ الكبير مولاي عبد القادر بن العربي وعلماء آخرين، كما درس بالقرويين بفاس، وبالرباط، واتصل بعلال الفاسي وأبي شعيب الدكالي والمكي الناصري وبلا فريج، وغيرهم من النخبة المثقفة بالمغرب وزعماء الحركة الوطنية. تعرض للاعتقال في سنوات الخمسين، وتقلد منصب وزير الأوقاف بأول حكومة مغربية (1956م)، ثم منصب وزير مستشار في مجلس التاج سنة 1957م، وتوفي سنة 1963م إثر حادثة سير[6].
3- الخلفيات المنتجة للتائيتين: استشعر حافظ عبء الانتماء لأمة العرب، فتعبأ للدفاع عن لغتها، وخاطب كبرياء المأخوذين بعزتها لينهضوا بمهمات تحريرها من الشوائب والملمات، وفكها من شرنقة العداة، ورتق الفجوة الآخذة في الاتساع بين الجناح المحافظ والجناح المجدد، الذي أنتجه السياق التاريخي من قبيل دعاة التعجيم وكتابة العربية بحروف لاتينية، فضلا عن دعاة الكتابة بالعامية، ممن يشير إليهم مصطفى صادق الرافعي بأنهم يعتنون "لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة. وإذا فصحوا جاءوا بالكلام الفج الثقيل، والمجازات المستوخمة، والاستعارات الباردة، والتشبيهات المجنونة، والعبارات الطويلة المضطربة..."[7].
إن ما ترشح به الجرائد من أعطاب، وما ينضح به جسد العربية من أوصاب أشبه بما اعتورها من اللحن وتقاذفها من مساعي الإخلال بها وإذلالها، منذ أن دشن المجتمع العربي مسلسل التنافذ الحضاري. غير أن الوطأة هذه المرة أشد، ما حرك في حافظ الوتر القومي العربي، فكان أول نغم صبه منه-كما يقول شوقي ضيف- "صيحة قوية في أبناء وطنه والأوطان العربية لإغاثة لغة الضاد ضد أعدائها حين سولت لمستر ويلمور نفسه مهاجمتها في عقر دارها، وكان قاضيا إنجليزيا بمحكمة الاستئناف الأهلية، فألف كتابا عن لغة أهل القاهرة العامية سنة  1902م، ودعا دعوة واسعة لاتخاذ العامية لسانا للأدب والعلم، وأحدث ذلك رجة عنيفة في مصر والبلاد العربية، وتصدى له حماة العربية، وفي مقدمتهم حافظ إبراهيم"[8].
أما قصيدة المختار السوسي فأُنشِئت زمن التلمذة بالقرويين، استجابة لحسه الوطني المناهض للمخططات الاستعمارية، التي تستهدف النيل من اللغة العربية والقضاء عليها، وذلك بتجميد الحركة العلمية بالقرويين وتحييد مواقفها، وإنشاء المدارس الفرنسية الكفيلة بصنع رجالات فرنسا (أي المغاربة الذين سيشكلون جسرا واصلا بينها وبين الشعب المغربي)، دع عنك الظهير البربري الهادف إلى بث الفرقة بين العرب والأمازيغ.
ولا يخفي السوسي اعتزازه باللغة العربية ومفاخرته بها، ويعدها نعمة من الله على الإلغيين، ويجهر ملء فيه: "فنحن عرب أقحاح (...) وإن لم تكن أصولنا إلا من هؤلاء الذين يجاوروننا من أبناء الشلحيين الأماجد"[9].
لقد شاء المستعمر -إذن- أن يطمس العربية ومعها القيم الإسلامية، وأن يحل محلها لغته وقيمه وثقافته، وآمن السوسي وأمثاله من الوطنيين بالعربية أساسا لتطور المجتمع ونهضته، فهي بذلك "بند جوهري في برنامج الشعر المغربي"[10] ولبنة "من لبنات المشروع النهضوي الذي نادى به المثقف المغربي"[11].
4- عتبة العنوان: رصد للمؤشرات اللفظية والسياقية: "اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها" هو عنوان قصيدة حافظ إبراهيم، الذي يحتضن بين طياته نعيا صريحا واتهاما صارخا بالتقصير، كما يعلن في الآن ذاته رغبته في إحياء ذماء العربية وبعث إشراقتها غِبَّ الشحوب، والأوبة إلى الزمن الدابر لتصحيح اهتراءات الحاضر ومهاتراته.
وإذا كان العنوان يجنح إلى التعميم والإطلاق بقوله: "بين أهلها"، ما يجعل منافذه مشرعة على كل من يستعذب جرس الضاد، ويستمرئ لذاذة النطق به، من العامي إلى العالم، ومن مصر إلى باقي الأمصار، فإن المؤشرات النصية تخط بعض ملامح المخاطب الذي تتجه إليه القصيدة، ومحصلتها كل من يختفي وراء طروحات الغرب ويحتفي بلغته، ثم يجافي لغته الأم، الأمر الذي يستدرج الأمة إلى أصعب نمط من أنماط الصراع الحضاري.
بهذا الفهم، فإن عنوان النص الحافظي يفصح عن نزعتين ترادفتا في خلده، وهما:
1- النزعة الإصلاحية الدينية: التي تؤمن بوجوب المحافظة على اللغة العربية من منظور المرجعية السلفية التي تشبع بها حافظ. ولا جرم، فقد تتلمذ على يد محمد عبده الذي كان مسكونا بالهاجس نفسه.
2- النزعة القومية: التي ترى في اللغة معبرا إلى وحدة الأمة العربية، وصد كل محاولة للتربص بالهوية، واستدراج الإنسان العربي للاغتراب.
أما عنوان قصيدة المختار السوسي "في ناد من الأندية العربية بفاس" فيمنحك الإحساس بشيوع الأندية (من للتبعيض). كما أنه لا يقال للمجلس ناد إلا إذا غص بأهله، ما يقوم دليلا على حركية الإبداع ودينامية الفكر، ونشاط العربية إنتاجا ورواجا في زمن رديء جرى فيه المستعمر ملء أشواطه مسكونا بأمل أن يرى العربية قد اعتراها الوهن وتعاورتها المحن وتَعرّت من ألقها وجاذبيتها وحادت عن السنن.
وتشف بعض لحظات النص عن أنه ألقي شفاهة أمام جمع من العلماء، ولاسيما من قوله:
بني فكرتي بني الوئام بني الحجا


بني النظرة العليا بني اليقظات...

إلى قوله: بمحفلكم هذا. فالمحفل أيقونة اللقاء المباشر بمتلقيه وجمهوره، الذي يتشكل غالبا من العلماء ومن زملائه طلاب جامعة القرويين. أما اسم الإشارة "هذا" الذي أتى به بعقب كلمة "محفلكم"، فيعد مؤشرا مساندا لفرضية اللقاء، لدلالته على القرب. ولعله الجمهور القريب الذي يَمْثُلُ أمام الشاعر وهو يرسل فيه خطابه، ولاسيما إذا استحضرنا مفهوم "النادي" بما هو "مأرز محاورة، ومجال مساجلة، وموطن محاضرة، ومكان لتبادل المعرفة، وإنماء الجدل، وتغذية روح المناقشة المثمرة، وباب مفتوح على التعلم. والتعلم مطلب وطني، وبند من بنود الجهاد"[12] فضلا عن أن النادي "خلية من خلايا النضال، ذو وظيفة يمكن تفريعها إلى وظائف تصب، بأجمعها، في قناة دفع جساوة الجهل والحجر على الحريات بماء ذي مجريين تراثي وحداثي"[13].
ومهما يكن من أمر، فإن السوسي يصدر –على غرار حافظ- عن رغبة أملتها توجهاته السلفية والوطنية، بالنظر إلى أن الاعتناء باللغة العربية هو في جوهره اعتناء بالكتاب والسنة واحتفاء بالانتماء.
5- قراءة مقارنة بين مستويات النصين:
1.5- التيمات المهيمنة:
استهلكت الشكوى مطلع القصيدة الحافظية، إذ برمت اللغة العربية بأهلها وضاقت بلا مبالاتهم ذرعا، فنزعت إلى التلبس بضمير الأنا لِتُعَدّدَ محاسنها من السعة والنفاسة والأصالة والقدرة على المسايرة والمواكبة والمضي في ركاب الكونية. وحرصت على التذكير بأن الوهن الذي يمازج أي لغة رهين بوهن أهلها، وبأن حياة الأمم وعزتها في حياة وعزة لغاتها، ثم حذرت من الوقوع في حبائل الغرب والاستدلال بدلائله المغرضة، مع استحضار رجالات الزمن الجميل الذين أخلصوا لعشق العربية. لتنعطف إلى ما تشهده الجرائد من عبث بها وانتهاك لحرمتها، وارتماء القوم في أحضان اللغات الأجنبية، قبل أن تختم بالرجاء بعد أن استفتحت بالشكوى.
أما مطلع القصيدة المختارية فيسير –على امتداد أربعة أبيات- وفق منحى استفهامي، يستغرقه هاجس الإنكار والحيرة مما آل إليه لسان مجايليه بسبب انصرافهم عن العربية إلى غيرها، وهي الروضة المبهرة بطلتها وطلعتها. وراح السوسي، بعقب ذلك، يقارن بينها وبين غيرها، ليقرر أنها جوهر العز وسر  الرقي، ما جعله يعلن –في حمية جارفة- عن استراتيجيته الدفاعية التي دونها كل العقبات. ثم يوجه همته شطر مخاطبيه في مقطع طويل كيما يكونوا قدوة ومشكاة يُهتدى بها.
2.5- الإيقاع:
نسجل بداية -تقاربا كميا بين النصين (23 بيتا و27 بيتا)، فضلا عن التماثل في الوزن والقافية وحرف الروي، وبيانه اختيار النصين معا أوزان الطويل بزحافات وعلل متماثلة (القبض- الحذف)،[14] وروي التاء المكسور، وقافية متكونة من أربعة حروف تنتهي جميعها بألف وتاء وياء.
- هيمنة لافتة لألف المد على النصين.
- قصيدة حافظ يسكنها الهمس، فيما يراوح السوسي بين الهمس والجهر[15].
- أما باقي الملحوظات الأخرى فنفصلها في الجدول الآتي:
الظاهرة الإيقاعية
النص الحافظي
رقم البيت
النص المختاري
رقم البيت
التصريع
حصاتي - حياتي
1
عظات - لغاتي
1
الترصيع
رجعت لنفسي فاتهمت
ناديت قومي فاحتسبت
1
خطاب - عظات
1
أسمع - أعلم
17
أستعجم الأعواد
أستطلع الأفكار
12
التجنيس
عقم – عقمت
2
أوجه – وجه
1
أبلي - تبلى
7
بأي - بأية
2
عزا - بعز
9
عييت – عيت
3
أتوا - تأتون
10
أنى- إنني
ينادي - وأدي
11
لسان - ألسننا
4
حفظن - حفظته
14
تخلب - المخضلة
7
سرت - سرى
19
نلنا - نالت
8
بسطت - بسطا
21
أمعن - أنعم
9


اثبتوا - ثبات
19
التكرار
ممات – ممات- ممات
23
أي -أي
1


عظات -عظات
11
نجاة - نجاة
14
تكرار "بني" 5 مرات
16
حياة - حياة
21
التقابل
ولدت - وأدت
3
تحت - يترقى
10
تركنا (بها)- أقبلت (على غيرها)
5
سوء - حسنات
22
الغرب -الشرق
15
نودع – نستقبل
23-24
رجائي - شكاتي
21


الترادف
عرائسي -بناتي
3
طرفه - النظرات
9
وسعت - ماضقت
4
أسبر - أفتلي
13
 ولئن كنت قد ركزت على الظواهر الإيقاعية التي تتجاور داخل البيت الواحد، وأضربت عن مثيلاتها ممن تأخذ مواقعها في النص استبداليا (أي تتوزع عموديا على الأبيات المختلفة)، فإن كلا من حافظ والسوسي قد أجريا تدبير قصيدتيهما على نَفَسٍ إيقاعي منتظم، ونسقاهما على إحكام الصنعة البديعية بصورة تكاد تكون متماثلة.
3.5- المعجم:
تفضي بنا قراءة النصين إلى استكناه مرجعيات الشاعرين المصوغة من معاجم متقاربة، والمستكينة إلى مجالات دلالية متماثلة، غير أن سياقات النصين تنبئ عن استهداف معجم اللغة واللسان بالأساس، بوصفه عنوانا للنزعتين الدينية والقومية، ورمزا للكيان والهوية.
أما المعاجم الأخرى فلا تعدو أن تكون دائرة في فلكيهما، ومساعدة على تحقيق مقاصدهما الكبرى.
فالمعجم الإنساني وظف في النص الأول بهدف تشخيص اللغة وأنسنتها، وجعلها تتحدث عن نفسها بنفسها. أما مرافعة السوسي فكان فيها صوت الشاعر طاغيا في حواره مع مخاطبيه (سأستعجم - أستطلع – أسبر- أفتلي- أعرض- أبدي – أدعو – أعلن...).
أما توظيف المعجم الموصول بالطبيعة والمحيط الواقعي فيكرس هاجس تقريب المعرفة وتيسيرها، في سياق الإقرار بأن الحواس هي أولى منافذ المعرفة، فضلا عن بيان قدرة اللغة على النهوض برهان المسايرة وتفتيق أسماء ومصطلحات لما يُستجد أو يُستجاد في مجال العلم والحياة من الأقوال الناشئة، وما يستفاد من الأحوال الطارئة. في حين يروم المعجم الديني نفخ النفس الإسلامي في النصين، والتحفيز على حسن استثمار درر هذه اللغة، واستشعار ما تنفرد به من نفاسة وقداسة، وذلك استجابة للخلفية السلفية والنزعة الإصلاحية التي تثوي خلف فكر الرجلين.
وتشف بنية المكان عن هيمنة الرؤية التقابلية في النص الحافظي وخفوتها نسبيا في النص المختاري، وذلك على النحو الآتي:
في النص الأول:
الشرق                            VS           الغرب
مصر (في الحاضر)              VS           الجزيرة (في الماضي)
البحر والفرات (مصدر العطاء      VS          القبرو الرموس (رمز الفناء والموت)
والحياة).
وتنخرط هذه التقابلات في سياق ثنائيات أكبر وأوسع وهي:
الشرق VS الغرب           
اللغة العربية VS اللغات الأجنبية
القوة VS الضعف          
الحاضر VS الماضي
الإشراق VS الذبول
في النص الثاني:
روضة تخلب النهى          VS          الوحلات


يهتدي بها الماشون في الفلوات أي يهتدي بها من كان قبل يهذي (في إشارة إلى أعداء العربية ممن يسخط انتماءه القومي ويقلد الغرب في غير تمحيص).

 
النور (وهو من متعلقات      VS
المكان) + الصوة


4.5- الأساليب:
1.4.5- بنية الضمائر:
قَلَى النص الحافظي كل ضمير غير ضمير اللغة، وقَوَّى المنزع الإقناعي، بتحييد ذات الشاعر، ما يشي بإشاعة التناظر بين "الأنا" و"الأنتم": أنا تحاجج عن نفسها، وتحتج على أهلها (الأنتم). 
فمع إيمان حافظ بأن الحصول على درر العربية ونفائسها الكامنة يعوز إلى الغوص، ورسوخ يقينه بانعدام الرجال والكفاءات القادرة على المضي باللغة العربية نحو الآفاق الكونية، فإنه لا يمكن للغة العربية أن يداويها إلا ذووها، لذلك يدع النص يتحدث بلسان اللغة، حتى لا يعفي نفسه من تقاسم المسؤولية مع الآخرين.
ولمزيد من الإقناع بأهمية اللغة العربية وضرورة اتخاذها مسلكا بل منسكا، يتحصن باستراتيجية الضمائر في قوله: "أخاف عليكم أن تحين وفاتي" ولم يقل:"أخاف علي" ليدلل على تجريدية الكيان اللغوي، وأن علة الخوف هي ضياع العزة وتبديد أسباب الكرامة، واحتجاز المريد دون المراد.
أما في النص المقابل فتهيمن ذات الشاعر بتوجُّهاتها وتوجيهاتها، فيُنصّب نفسه وصيا على العربية ويمنحها موقعا خاصا في غير استعلاء، وحجتنا في ذلك خلو النص من النهي ومن فعل الأمر إلا في موضعين من بيت واحد:
..فعضوا بالنواجذ واثبتوا



فلن تدرك العليا بغير ثبات

   2.4.5- بنية الأفعال:
- النص الحافظي:
الماضي
رجعت –اتهمت- ناديت- احتسبت – رموني- ولدت- وأدت- وسعت- ضقت- سألوا- عز – عز- أتوا- علمتم- سقى الله- حفظن- حفظت- فاخرت- عفا الله- سرت- سرى- جاءت- ضم- بسطت..
المضارع
أجزع- أجد- أضيق- أبلى- تبلى- تكلوني- أخاف- تحين- أرى- تأتون- يطربكم- ينادي- تزجرون- يعز- تلين- أرى- يدنيني- أسمع- أعلم- يهجرني- تبعث- تنبت..
- النص المختاري:
الماضي
عييت- عيت- تركنا- أقبلت- نلنا- نالت- أمعن- أنعم- رأينا- نلتم- وجدتم- سادت..
المضارع
أوجه-أنشرها- أرتضيه- نمد- نترك- تخلب- يترقى- استعجم- أستطلع- أسبر- أفتلي- أعرض- أبدي- أدعو- أعلن – يواتي – ألتقي- يسري- نودع- نستقبل- سينشلنا- تكونوا- يهتدي- يحيا- تجتلي..
تتكافأ أفعال الماضي والمضارع في النص الحافظي، الأمر الذي يعكس رؤية تناظر بين حاضر اللغة العربية وغابرها، وترسم مسارب الأمل في تجاوز إخفاقات الحاضر وبعث العربية من رميمها خطوا على جَدَدِ رجالها الأوائل.
أما النص المختاري فيسري في إهابه نَفَسٌ متفائل، ويقري في رحابه نسقَ أزمنة متفاعل، تجلوه كثرة أفعال المضارع الدالة على الحال والاستقبال، وقلة أفعال الماضي، التي تضافر بعضها مع النسق وتضامن معه بالتحلل من صيغته الماضوية من قبيل قول الشاعر.
-نمد أكفا- قطع الله راحها


إلى غيرها من اللغى السمجات

وأفعال الدعاء المصوغة على شاكلة الماضي تدل -بالضرورة- على المستقبل، وذلك "نحو قولك: "غفر الله لك" في الدعاء، وهو على المثال الماضي، فإنك لا تريد إخبارا عن غفران مضى من الله سبحانه، ولكن تريد غفرانا من الله يكون، ولكنه لم يقع بعد، وترجو بالدعاء أن يقع"[16].
- رأينا جميع العز تحت حياتها، (أي سنرى). وهو أرسخ وأقوى من التعبير بالمضارع.
- فها أنتم نلتم مناكم.
- وهذا الذي يُجرى إليه ويُشتهى (...) وجدتم.
- ففي اليوم سادت فكرة.. (أي ستنالون.. وتجدون.. وتسود..).
3.4.5- أنماط الجمل:
ينزع النص الأول منزعا وصفيا إخباريا دون أن يعدم المد الإنشائي المستفرغ في الأساليب الآتية:
- أسلوب الاستفهام:
- فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة؟ للإنكار.
- فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟ للتعجيب.
- أيطربكم من جانب الغرب ناعب؟ للاستغراب
- أيهجرني قومي؟ للاستغراب.
- أسلوب التحذير:
- فيا ويحكم...
-أسلوب النهي:
- لا تكلوني للزمان
- أسلوب التمني:
-ليتني عقمت... استعمل الشاعر هذا الأسلوب متمنيا ما يمتنع حصوله (داخل في باب العسر والاستحالة)، واصلا هذا التمني بالنفي (نفي الجزع). وما دام ما تمنته اللغة العربية صعب الحصول، فستظل مسكونة بهذه المشاعر المكلومة.  
- فياليتكم تأتون بالكلمات. وكل هذا للتوبيخ والسخرية والعتاب.
- أسلوب النداء:
- يرسل في البيت الأول نداء للاستغاثة وطلب النصرة: (إلى معشر الكتاب...)، وهي خصلة احتفى بها الإنسان العربي منذ القديم.
- أسلوب الدعاء:
- سقى الله.. (العتاب والسخرية).
- عفا الله.. (يستلزم وقوع الذنب والجرم).
- أسلوب الشرط:
- لوتزجرون الطير. وزجر الطير من عادات العرب التي تساعد على التحقق من التنبؤات.
- أسلوب التخيير:
- فإما حياة... وإما ممات...
أما النص الثاني فينحشر في مساق الوصف والإخبار، فيما ينحسر المشرب الإنشائي وينحصر في بعض الأساليب، منها:
- أسلوب الاستفهام:
- بأي خطاب أم بأي عظات؟
- بأي فعال أم بأية حكمة؟
- وكيف وأَنَّى يا إلاهي؟
- أي لسان أرتضيه لنشرها؟
- أين أهل عظات؟
- أسلوب الدعاء:
- قطع الله راحها.
- أسلوب النداء:
- أدعو إلى رأيي.
- بني فكرتي بني الوئام...
- أسلوب الأمر:
- عضوا بالنواجذ واثبتوا.
- أسلوب الشرط:
- فلو أننا نلنا من العقل ذرة (ب 8).
- جوابه: رأينا جميع العز... (ب 10).
4.4.5- الصورة الشعرية:
تعد الصورة الشعرية توليفة تخييلية، أو تركيبا فنيا يقوم فيه الخيال بدور أساس، ويشكل في عمقه انزياحا أسلوبيا تندس فيه تجربة الشاعر وحمولته المعرفية.
انزاحت اللغة في الأبيات الثلاثة الأولى عن مسار الدلالة الحقيقية لتخلع على النص شحنة جمالية وإيحائية تعكس جنوح الشاعر نحو تشخيص اللغة العربية، من خلال استعارة بعض الخصائص الإنسية لها كالحصاة (البيت 1)، والعقم (البيت 2)، والولادة والوأد (البيت 3)، ثم استعارة البحر للغة (بيت 6) والمرض (البيت 7)، والوفاة (البيت 8)، ثم وأد اللغة (البيت 11)، واستعارة القلب الدائم الحسرات (البيت 14)، والمفاخرة للغة والإطراق للشرق (ب 15) والرؤية والدنو من القبر (البيت 16)، والسمع والعلم (البيت 17). أما في البيت 19، فيشبه الشاعر مخالطة لغة الإفرنج للغة العربية بممازجة لعاب الأفاعي (السم) للماء العذب الصافي، ثم يشبه ما شاب اللغة من الشوائب بقطعة الثوب المشكلة من ستين رقعة متباينة الألوان، (البيت 20)، في حين أن الشاعر يستعير الرجاء والشكوى للغة (البيت 21) وبقايا الجسد (الرفات) (البيت 22).
نتبين أن استشفاف أوجه الشبه لا يحتاج إلى إجهاد أو فضل اجتهاد، ذلك أن الشاعر لم ينزع منزع الإغراب في صوره. فمع استبداد النمط الاستعاري بالنص، إلا أنه ظل قريب المأخذ، ظاهر الألفة، لا يلج حيز النادر والمبتدع.
وبتحويل الطرف شطر نص السوسي نلحظ عزوفه عن الصور، إلا في  مواضع قليلة، نسردها كالآتي:
- استعارة الأعظم النخرات للغة (البيت 2).
- استعارة الصياغة للسان (وهي من مجال الصاغة) (البيت 4).
ويبدو أن هذه الاستعارة قد صارت حقيقة من كثرة التداول والابتذال.
- تشبيه اللغة بالكنز النفيس (البيت 5).
- تشبيهها بالروضة التي تخلب النهى، واستعارة بهاء الطلعة لها (البيت 7).
- التصوير التشبيهي لتفاعل الأنا مع الآخر: (فصرن كذات) (البيت 18).
- يشبه قومه بالنور وبالصوة. (البيت 26).
وفي الحق أن هذه الصور كادت أن تتجرد من الوُسُومِ المجازية والتخييلية، بسبب من الثنائية المتناكفة وغير المتكافئة، والتي تفيد تغليب الرؤية الحسية وتغييب الرؤيا الحلمية.
5.5- التناص البيني والتناص المفتوح:
تنسف مقولة "التناص" وهم "استقلالية النص"، ذلك أن كل نص ينقبض إلى سلطة نصوص أخرى غائبة تزدان بها مرجعيته، وتغتني بها تجارب صاحبه.
أقصد بالتناص البيني التناص الحاصل بين النصين المدروسين، فيما يتجه التناص المفتوح إلى رصد انفتاح النصين على نصوص أخرى.
ينفتح النص الحافظي -وهو النص الذي أنشىء أولا- على النصوص التراثية والنص القرآني، إذ تشكل أهم مصادر الصور في هذا النص.
ففي البيت (12) يستعير الشاعر خرافة أو معتقدا ضالا من معتقدات العرب، وهي مسألة زجر الطير التي يتشوفون بها إلى قراءة المستقبل والغيب، ثم يستجلب فكرة وأد البنات في البيتين (3) و(11) من النص القرآني المقدس ليعتضد النص المختلف فيه (النص الشعري) بالنص المتفق عليه (النص القرآني)، بناء على أن التناص هو منهج في الاستدلال، كما يرى الدكتور طه عبد الرحمن[17]. يقول تعالى: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألاساء ما يحكمون"[18]، ويقول أيضا جل وعلا:"وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت"[19].
أما قول الشاعر: (الأعظم النخرات) في البيت (15) فمستفاد من قوله تعالى: "يقولون أنا لمردودون في الحافرة إذا كنا عظاما نخرة[20]، أو ربما نظر إلى قول ابن الرومي:[21].
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد
   

وما الناس إلا أعظم نخرات.

 في حين أن قوله: (الرفات) في البيت (22) فينظر إلى قوله تقدست كلماته: "وقالوا أذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا"[22].
أما الإضافة التي جاء بها النص المختاري فهي استعماله لعبارة حديثية وهي "عضوا عليها بالنواجذ"[23]، فيما يتعاور مع النص الأول بعض المعاني نفصلها في الجدول الآتي:
المعاني التي أوردها حافظ إبراهيم ومواقعها من النص
المعاني التي أوردها المختار السوسي ومواقعها من النص
- أنا البحر في أحشائه الدر كامن (البيت 6)
- تركنا بها كنزا نفيسا (البيت 5)
- وكم عز أقوام بعز لغات (البيت 9)
- رأينا جميع العز تحت حياتها (البيت 10)
- الأعظم النخرات (البيت 15)
- الأعظم النخرات (البيت 2)
- إلى لغة لم تتصل برواة (البيت 18)
-إلى غيرها من اللغى السمجات (البيت 6)
سرت لوثة الإفرنج فيها (البيت 19)
- ألسننا صيغت من العجمات (ب 4)

تقويم تركيبي:
لاشك أن وحدة الموضوع (اللغة العربية)، والوزن (الطويل المحذوف)، وحرف الروي (التاء المكسور)، مسوغات كافية للمقارنة بين النصين، بل لحسم البعض وجزمه بوجود "المعارضة"، على خلاف د. مصطفى الشليح الذي خلص من خلال إحصاء القافية المشتركة إلى توثيق البيانات الآتية:
"1- لم يتسرب من مجموع قوافي حافظ إلى المختارية إلا 18,51%: (حياتي –عظاتي- لغاتي- حسرات- نخرات). وإذا اعتبرناها ذات سيولة استعمالية في الخطاب المتداول أمكن إنزال الاستدعاء إلى الدرجة الصفر من التوظيف. وإذا ارتأينا أن استثمارها لم يرد مقطعيا إلا مرة واحدة (أعظم نخرات)، (...) وجب القول إن قوافي المختارية غير ناظرة في الحافظية.
ب- استقلت قوافي السوسي بنسبة 81,49%، وطغت الصيغة الصرفية (فعلات) على معظمها، ولم تأت منسوبة إلى المتكلم إلا ثلاث مرات، في حين بلغت، عند حافظ، اثنتي عشرة مرة.
ج- هيمن على قوافي حافظ وضع نحوي مطلق أسهمت النسبة إلى ياء المتكلم في تلافي الإقواء. واستبد الكسر، خصوصا، بقوافي المختار، باعتماد حرف الجر، أو الإضافة، أو بالنيابة عن الفتح في الجموع المؤنثة السالمة[24].
ولم يكتف مصطفى الشليح بذلك، بل راح يبين تباين النصين من حيث "العنوان" و"المطلع"، ونمط توظيف اللغة، والمقصدية. ليسجل بثقة أنهما "قصيدتان تتفاوتان، لغة، وبلاغة، وإيقاعية، ومقصدية وليس من شأن توحد الروي والبحر والموضوعة ما يبيح القول باتباع المختارية للحافظية"[25].
ومهما يكن من شأن، فقد سعيت، بحرص، إلى تنكب مسلك المحاكمة والمماحكة، وألزمت ذاتي بالتجرد والحياد، وتركت النصين يرشحان بما فيهما، وينطقان بإمكاناتهما، أملا في إشراك القارئ في استخلاص النتائج والأحكام. وإليكم خلاصة ما انتهيت إليه:
1- يشترك النصان في بعض الألفاظ منها: الله –الرجال- لغات- الآي- حياة- عظات- عز أقوام- حسرات- الأعظم النخرات... وفي بعض المعاني أيضا من قبيل ما أشرنا إليه في مبحث التناص البيني.
3- تقارب في استعمال المقومات البديعية: (التصريع، والترصيع، والتجنيس والتكرار والتقابل والترادف).
4- هيمنة الثنائيات في نص حافظ وخفوتها في النص المقابل.
5- تميز النصين بالتنويع في الأساليب، والمراوحة بين الخبرية والإنشائية.
6- توسل النص الحافظي بالتشخيص ليسود ضمير اللغة، فيما هيمن ضمير الشاعر على نص السوسي.
7- لغة حافظ سهلة، ولغة السوسي منتقاة. وقوته اللغوية آيلة إلى نشأته العلمية التقليدية بالبوادي والحواضر معا. ومعلوم أن المدارس البدوية كانت تُحِلُّ المتون اللغوية محلا رفيعا، ما أتاح لشاعرنا الارتشاف من أفاويق الضاد. 
8- طغيان الحروف المهموسة على النصين، وخاصة النص المشرقي، ما يتناغم مع الصوت الخافت للغة العربية، إذ لا تكاد تهجس أو تهمس في آذان أهلها بما أَلَمَّ بها وآلَمَهَا إلا حياء.
9- ويقودنا ذلك إلى الحديث عن التمايز على مستوى الرؤية، فالعربية في الحافظية قد ساءت أحوالها مبنى ومعنى، جسدا وروحا، وغدت في وضع مزري، حتى إنها تتهم عقلها اتهاما لا يخلو من السخرية بأهلها، ونستشعر أن الأطباء (الأساة، أي أهلها) لا يأبهون بالداء الذي استشرى في جسدها، فتجاذبتها دعوات الإبادة: (طروحات الغرب + ضجة كتاب مصر+ مزالق الجرائد+ هجران القوم..)، وهي دعوات محسوسة، تُرى وتُسمع: (أرى كل يوم بالجرائد مزلقا+ أسمع للكتاب في مصر ضجة). وهذا ما جعل النص الحافظي ناقما على مثقفي مصر، وموسوما بروح التشاؤم: (احتسبت حياتي (البيت1)+ وأدت بناتي (البيت 3)+ فيا ويحكم (البيت 7)+ أخاف عليكم أن تحين وفاتي (البيت 8)+ فيا ليتكم تأتون بالكلمات (البيت 10)+ من القبر يدنيني بغير أناة (ب 16)+ أعلم أن الصائحين نعاتي (ب 17). وأكثر من هذا أنه حين ينصرف عن الشكوى إلى الرجاء (بسطت رجائي بعد بسط شكاتي) (ب 21)، يصوغها بلغة سوداوية، تشيع أجواء جنائزية يجلوها استبداد معجم "الموت": (الميت –البلى- الرموس- رفاتي-قيامة...) وتكرار كلمة "ممات" ثلاث مرات في المقطع الختامي، لعله يشعر أهل العربية بالمخاطر الحافة بلغتهم.
أما السوسي، فمع شيوع العجمة وتربص المستعمر بالعربية، غير أنه يبث جرعة من التفاؤل في نفوس أهله، ويبعث من بين أطواء خطابه أضواء الأمل، إذ يرى أن المغرب سيغدو أنموذجا يحتذى بعقب أن يودع الزمن الماضي بما فيه من سوء وحسنات، على ما أبداه في مفتتح النص من حسرة يفصح عنها سؤاله عن الوسائط الكفيلة بإحياء اللغة العربية، وأيها أجدى لبلوغ هذا المسعى: (خطاب -عظات- فعال- حكمة).
فالسوسي يرفض التخلي عن أنفته وعنفوانه، ويستمسك بالأمل، ويستبشر خيرا بالمثقف المغربي:
بني فكرتي بني الوئام بني الحجا


بني النظرة العليا بني اليقظات.

ومن علامات النفس المتفائل قوله: (إلى أن يواتيني الزمان فألتقي بمنشودتي (ب 16)+ نودع ذياك الزمان الذي مضى (ب 23)+ ونستقبل الآتي (ب 24)+ لكيما تكونوا قدوة (ب 25)+ ونورا لما يأتي (ب 26)+ وصوة بها يهتدي الماشون في الفلوات (ب 26)+ فتحيا بكم آي اللسان (ب 27)+ وتجتلي بمحفلكم هذا مها الفكرات (ب 27).
10- تميز النص الحافظي بغنى الصور الشعرية التشخيصية، فيما خفت هذا المعطى في النص النظير، غير أنه تفنن في المنحى النحوي الإعرابي واللغوي[26]، ما يعكس شخصية الرجل العالمة ومنطقه الموسوعي، على عكس حافظ الذي كان ضئيل الثقافة، متواضع المعرفة، على نبوغه الشعري، وعده ثالث أقطاب التيار الكلاسي.
فلا عجب أن يكون جل جمهور حافظ من ذوي الجلابيب، فهذا محمود تيمور يرى أن جمهوره ليس "من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب... يصفقون له في صدق وإيمان"[27].
11- نلحظ اختلافا في التعامل مع الآخر، إذ تراوح رفض الغرب ونبذه بين الإغراق والاعتدال، وبين نازع إلى القطيعة وجانح إلى التوفيق وتطويع وقع اللغات الأجنبية مع واقع اللغة العربية.
فحافظ إبراهيم ينزع إلى التخيير بين الحياة والموت، منتهجا –في حديثه عن الغرب- استراتيجيتي التلميح والتصريح:
- لم أجزع لقول عداتي ( ب2).
- فلا تكلوني للزمان (ب 8).
- أرى لرجال الغرب عزا ومنعة (ب 9).
- أيطربكم من جانب الغرب ناعب (ب 11).
- وفاخرت أهل الغرب (ب 15).
- سرت لوثة الإفرنج فيها ( ب 19).
أما النص المختاري فلم يشر كثيرا إلى الغرب إلا في قوله:
- نمد أكفا – قطع الله راحها –إلى غيرها من اللغى السمجات (ب 6) –
- أُشربت وفاقا طواياكم فصرت كذات (ب 18).
وهذا ما ينهض حجة على أن "ليس في موقف المختار أي تعنت سلفي يرفض الانفتاح على الثقافة الإنسانية والاستفادة من تجاربها وخبراتها، وليس فيه أي انحباس في دفتر الماضي لا يود عن سطوره خروجا ولا عن دفتيه رحيلا وعروجا، بقدر ما يرفض إهمال الأصل والاكتفاء بما هو غريب عنه، ولكأنا به (...) يدعو القوم إلى التوفيق بين اللغتين مع الإصرار على حذق وتطوير لغة الآباء والأجداد"[28].
فالمختار السوسي صاحب رؤية متقدمة على زمنها، فهو يؤمن بالانفتاح على الثقافة العالمية، ويعد المعاني والأخيلة مسألة مشتركة بين جميع الأقوام والأجناس.
لم تكن، إذن، صرخة السوسي وقبله حافظ، وهما من وطن انتكس وارتكس، وأرخت عليه المهانة بأسدالها، إلا تجسيدا لتمثلات وأوهام ما انفكت تجثم بأحمالها على عقول الأمة حتى يوم الناس هذا، وكأني بالشاعرين أوحيا إلى نزار قباني بأن يعلن في ألم ممض:
رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم
ولكني.. ما رأيت العرب!!
فمتى يستشعر العرب قيمة لغتهم، ومتى يدركون أنهم خيرُ أمة أخرجت للناس؟

      









ملحــق
اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها – حافظ إبراهيم
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
فلا تكلوني للزمان فإنني
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ولو تزجرون الطير يوما علمتم
سقى الله في بطن الجزيرة أعظما
حفظن ودادي في البلى وحفظته
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
وأسمع للكتاب في مصر ضجة
أيهجرني قومي – عفا الله عنهم-
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
إلى معشر الكتاب والجمع حافل
فإما حياة تبعث الميت في البلى
وإما ممات لا قيامة بعده


وناديت قومي فاحتسبت حياتي
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وما ضقت عن آي به وعظات
وتنسيق أسماء لمخترعات
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ومنكم وإن عز الدواء أساتي
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
وكم عز أقوام بعز لغات
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
ينادي بوأدي في ربيع حياتي
بما تحته من عثرة وشتات
يعز عليها أن تلين قناتي
لهن بقلب دائم الحسرات
حياء بتلك الأعظم النخرات
من القبر يدنيني بغير أناة
فأعلم أن الصائحين نعاتي
إلى لغة لم تتصل برواة
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
مشكلة الألوان مختلفات
 بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
ممات لعمري لم يقس بممات.







في ناد من الأندية العربية بفاس – المختار السوسي

بأي خطاب أم بأي عظات
بأي فعال أم بأية حكمة
وكيف وأنى يا إلاهي؟ وإنني
فأي لسان أرتضيه لنشرها
تركنا بها كنزا نفيسا فأقبلت
نمد أكفا – قطع الله راحها-
ونترك منها روضة تخلب النهى
فلو أننا نلنا من العقل ذَرَّةً
وأمعنَ كلٌّ طرفَهُ في أصوله
رأينا جميع العز تحت حياتها
ففي غيرنا لو كان فينا مفكر
سأستعجم الأعواد في كل مجمع
وأسبر أغوار الرجال وأفتلي
وأعرض في كل الذين أراهم
وأدعو إلى رأيي وأعلن أنه
إلي أن يواتيني الزمان فألتقي
بني فكرتي بني الوئام بني الحجا
فها أنتم نلتم مُنَاكُم وأُشْرِبَتْ
وهذا الذي يُجرى إليه ويشتهى
وجدتم فعضوا بالنواجذ واثبتوا
ففي اليوم سادت فكرة يرتجى بها
وعين الصلاح في حياة لغاتكم
نودع ذياك الزمان الذي مضى










أوجه وجه الشعب شطر لغاتي
أنشرها من أعظم نخرات
عييت وعيت حيلتي وأداتي
وألسننا صيغت من العجمات
على غيرها الأفكار مبتدرات
إلى غيرها من اللغى السمجات
بطلعتها المخضلة الزهرات
ونالت طوايانا أقل حياة
وأنعم في أحواله النظرات
بها يترقى الشعب في الدرجات
عظات ولاكن أين أهل عظات
وأستطلع الأفكار في الخلوات
عقول جميع الناس في الجلسات
خطابي وأبدي بينهم حسراتي
نجاة لمن يبغي طريق نجاة
بمنشودتي رغما عن العقبات
بني النظرة العليا بني اليقظات
وفاقا طوايا كم فصرن كذات
تيسره من أربع سنوات
فلن تدرك العليا بغير ثبات
صلاح إذا ما أيدت بثقات
فيسري بها للشعب كل حياة
بما فيه من سوء ومن حسنات






ونستقبل الآتي بسعي إلى الذي
لكيما تكونوا أهل ذا الجمع قدوة
ونورا لما يأتي بعيد وصوةً
فتحيا بكم آي اللسان وتجتلي



سينشلنا من هذه الوحلات
لغير كم في هذه الحسنات
بها يهتدي الماشون في الفلوات
بمحفلكم هذا مها الفكرات.






[1] - اللغة بين القومية والعالمية –إبراهيم أنيس- دار المعارف- مصر، د ط- 1970، ص: 8.
[2] - انتقال النظريات –إدوارد سعيد-مجلة "الكرمل" – عدد 9- 1983، ترجمة أسعد رزوق، ص: 12.
والمقال منشور أيضا بعنوان: "عندما تسافر النظرية- ترجمة: مصطفى كمال- مجلة "بيت الحكمة"، عدد 2- السنة 1- يوليوز 1986م، (ص: 139-165).
[3] - إشكالية التيارات والتأثيرات الأدبية في الوطن العربي (دراسة مقارنة)- د. سعيد علوش -المركز الثقافي العربي –الدار البيضاء- ط 1- 1986م، ص: 21.
[4] - م. نفسه، ص: 10.
[5] - ديوان حافظ إبراهيم- ضبطه وصححه وشرحه ورتبه: أحمد أمين - أحمد الزين- إبراهيم الآبياري- الناشر محمد أمين ومج- بيروت- د ط- 1969م (مقدمة الديوان – بقلم أحمد أمين).
[6] - ينظر على سبيل التمثيل: محمد المختار السوسي – د. مصطفى الشليح- ذ. أحمد السليماني – ذ. بوشتى السكيوي- مطبعة إيديال، نشر مؤسسة أونا – د ط- د ت. ينظر أيضا: "الأدب العربي في المغرب الأقصى –محمد بن العباس القباج- مطابع فضالة، المحمدية- ط 1، دجنبر 1979م، ج 1.
- "محمد المختار السوسي دراسة لشخصيته وشعره"- محمد خليل- مؤسسة الطباعة والنشر- الدار البيضاء – ط 1، نونبر 1985م. (ينظر مثلا، صفحات 78-114-171...). ويمكن الرجوع أيضا إلى مؤلفات المختار السوسي نفسه كالمعسول وسوس العالمة...
[7] - تحت راية القرآن (المعركة بين القديم والجديد)- مصطفى صادق الرافعي- ضبطها وصححها محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة بالقاهرة- مصر- ط 5، 1963م، ص: 17.
[8] - حافظ وشوقي وزعامة مصر الأدبية- شوقي ضيف- مجلة "فصول" المجلد 3-العدد 2- يناير – فبراير- مارس- 1983م، عدد خاص بـ: (شوقي وحافظ) الجزء 2- ص: 158.
[9] - المعسول – محمد المختار السوسي- المغرب- لم ترد أي إشارة إلى دار طبعه – د ط – د ت- ج 1، ص: 13.
[10] - محمد المختار السوسي – جماعة من المؤلفين- (مرجع مذكور)- ص: 111.
[11] - م. نفسه، ص: 112.
[12] - في بلاغة القصيدة المغربية- د. مصطفى الشليح- مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط 1، 1999م، ص: 422.
[13] - م. نفسه، ص: 422.
[14] - القبض هو حذف الخامس الساكن، وهو زحاف يلحق السبب الثاني. وسمي الجزء مقبوضا لقبض امتداد الصوت بعدما كان مبسوطا.
والحذف: هو حذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة. 
القبض: (مفاعلن).
الحذف: (مفاعي وتصير فعولن).
[15] - في بلاغة القصيدة، ص: 424.
[16] - المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا – أبو فهر محمود محمد شاكر – دار المدني بجدة – مكتبة الخانجي بمصر، 1987 م- ص-ص: 12-13.
قال سيبويه في سياق حديثه عن الأزمنة التي تتعاقب على الفعل: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع". (كتاب سيبويه- أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر –تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون- عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، د ت د ط- ج 1-ص: 12. وقد أشار محمود شاكر إلى أن عبد القاهر الجرجاني وحده من تنبه إلى قصور فهم الناس لهذا النص ولكنه لم يعلل ذلك. فتكفل محمود شاكر بالتعليل.
[17] - في أصول الحوار وتجديد علم الكلام – د. طه عبد الرحمن. المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع –ط 7- 1987م، ص: 41. 
[18] - سورة النحل، الآيتان: 58-59.
[19] - سورة الانفطار، الآيتان: 8-9.
[20] - سورة النازعات، الآيتان: 10-11.
[21] - ديوان ابن الرومي- تحقيق حسين نصار، القاهرة، د ط، 1973م، ج 1، ص: 391.
[22] - سورة الإسراء، الآية: 49. وتكررت في الآية 98 من السورة ذاتها.
[23] - سنن الترمذي، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، كتاب العلم، رقم الحديث 2891، وهو من حديث الآحاد: رواه الصحابي العرباض بن سارية: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
[24] - في بلاغة القصيدة المغربية، ص: 423.
[25] - م. نفسه، ص: 425+محمد المختار السوسي، مؤلف جماعي، ص: 113.
[26] - أبان النص عن تميز نحوي. نشير على سبيل الذكر لا الحصر إلى استعمال أسلوب التمييز، في البيت الرابع، للتحول من الشمول والتعميم (كتاب الله)، إلى التخصيص والتحديد (اللفظ والغاية)، ثم يجعل ذلك موصولا بـ"ما" النافية: (وما ضقت عن آي به وعظات) للتأكيد، وليمنح معنى واضحا ولائحا مؤداه شمول اللغة للآي والعظات.
دع عنك التنويع على أزمنة الأفعال، والفعل المبني للمجهول (البيت 18-19) والمراوحة بين الفاعل ونائبه، والتقديم والتأخير (البيت 27)... الخ.
[27] - دراسات في القصة والمسرح – محمود تيمور- مكتبة الاداب بالجماميز، د ط- د ت، ص: 183.
وينظر أيضا: شعر حافظ إبراهيم دراسة في ضوء الواقع السياسي والاجتماعي، علي البطل، مجلة فصول، المجلد 3- العدد 2، يناير-فبراير-مارس 1983م، ج 2، ص: 81 + ص: 90.
يبدو أن الفقر جعل شعر حافظ ينطبع بالطابع الشعبي، ويأتي حاملا لصورتين: - صورة الشعب.
- صورة نفسه بما تتأرجح به بين اليأس والرجاء.
مأخوذ من "حافظ وشوقي – طه حسين- منشورات الخانجي وحمدان، القاهرة- بيروت- د ط- د ت- ص: 4.
واللافت أن شوقي تمنى أن يرثيه حافظ، غير أن القدر شاء خلاف ذلك، فتوفي حافظ قبل شوقي، وقال فيه:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي


يا منصف الموتى من الأحياء.

(الشوقيات – أحمد شوقي- دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة، د ط، د ت، ج 3- ص: 24).

[28] - محمد المختار السوسي، مؤلف جماعي، ص: 112.
يرى د. مصطفى الشليح أن شيوع تيمة "العربية" وإلحاح الشعراء عليها في قصائدهم "منبثق من هاجس المثقف المغربي عموما بحتمية الانفتاح المحترس على اللغة الفرنسية، بعد تمثل أصول العربية، لمقاومة التدجين الاستعماري بأسلحة مستوردة من عمق ثقافته وحضارته ولغته".
(في بلاغة القصيدة المغربية- ص: 420-421).