الأربعاء، 30 مارس 2016

نزيف الأجنحة: قراءة في "العصفور الصغير" لإلياس أبو شبكة.

نزيف الأجنحة: قراءة في "العصفور الصغير" لإلياس أبو شبكة.
د. الحسين ايت مبارك
كلية اللغة العربية
مراكش- المغرب
لا تكاد تنخرط في قراءة هذا الكتاب/ الديوان الذي أصدرته مجلة "الدوحة" مرفقا بعددها الأخير، وقَدَّم له الناقد عبده وازن حتى تحتلك جملة من الأحاسيس والانطباعات؛ إذ لا يمكن للعين أن تخطئ عنوانه المثير، ولا أن تذهل عن مُضيّ القصائد دامعة في ركاب أحزان الشاعر وأدرانه.  
هي تيمة "الألم"، إذا، بوجهين قاتمين؛ يتلبس أحدهما برمزية السلطة الأبوية المفقودة، ويتعاور ثانيهما صراع الأزلي والزائل (صراع الهواجس الدينية والنزوات الشيطانية).
فكيف حالك أيها العصفور الصغير؟ أيها الطفل العابث والحالم؟ أينسحب عليك قولهم: ماعلا طير وارتفع إلا كما ارتفع وقع؟
نعم، لقد استجاب وقوعه للتوقع؛ حياة مضطربة ومتناقضة، وعمر أقصر من فستان مراهقة.
لقد مكنتنا هذه المختارات من أن نستوشي روحا متناكفة المنازع، يمزقها سجال الخطيئة والتكفير، حتى إن النقد لم يستطع أن يستجمع أطرافه لِيُجْمِعَ إزاء هذه التجربة على رأي واحد، فاتجه فريق إلى إحلال الشاعر عنان السماء، فيما لم تجد ثلة أخرى غضاضة في أن تهوي به إلى الحضيض وتسمه بالسفالة والقذارة والكفر.
ويحق لنا أن نتساءل، بداية، ما العلاقة بين الديوان وعنوانه؟
أبو شبكة والعصفور.
تشف عتبة العنوان عن تناغم لافت بين الشاعر والعصفور، نذكر بعض مظاهرها في الآتي:
- تشاكل روح الشاعر الطائشة مع ما درجت عليه الأعراف العربية من وصف الإنسان الطائش والسفيه بِحِلْمِ العصفور.
- وقوع العصفور الصغير فريسة السهام، فهو سهل الانقياد. والشاعر وقع فريسة اللوم والآلام في الآن معا.
- إحالة العصفور على معاني السيادة والملك. والشاعر سيد مشاعره، وملِكٌ لا يُنازع أو يُدافع في مجاله.
- طيران العصافير يحيل إلى حرية الشاعر وانطلاقه؛ إذ يمخر عباب بحر بلا ضفاف، هو بحر الشهوة والنزوة.
- بحث العصافير عن رحيق الأزهار يجعل حبوب اللقاح تنتقل من زهرة إلى أخرى، فتنثر الحياة هنا وهناك. والشاعر مثل زهرة تذوي ليستمتع الآخرون.
- وإذا أضفنا إلى هذا ألفة العصافير وحفظها لتوازنات البيئة، وبعثها البهجة في النفوس بتغريدها، فهمنا أن عنوان هذا الديوان لا يعدو أن يكون معادلا موضوعيا أو جماليا لشخصية رقيقة وخدومة، أطربت مريديها بما عزفته من ألحان شعرية شجية، أنزلت الأحلام الإنسانية من عليائها وخفضت لهم جناحها، وللناس في هذه الشخصية مآرب أخرى...
أبو شبكة في شباك الآلام.
ينطق "العصفور الصغير" بأسرار روح مكلومة، ويجهر بفوضى تستوطن الأعماق، وتكشف عن جروح تنوء بها الحروف. كما يخبرنا الديوان بهموم فرد يختزل جمعا، ويستفرغ معاني الآلام في معالي الكلام؛ فقد سافر الشاعر في ذاته، وارتحل بين شعاب الروح ليهدي إلينا رحيق تجربة يجترها الجُمَّاء الغفير منا، دون أن نقوى على الارتفاع بها إلى يفاع الاستبصار، وإلى نور التجلي والإظهار.
فلا غرابة إن جنح إلى "الدفاع عن "الألم""، أو سقى شعره بماء القلب والعين معا. فالألم هو النواة المركزية لأشعاره (motive)، ولا أدل على ذلك من قصائده التي تهتف بعنوانات لا تصدف عن هذه "النواة" كغرفة الحزن"، و"جرس الحزن"، و"العذاب الحي"، و"القاذورة"، و"دعيني أموت" و"الحزن والجمال"، و"أيها الظلم"، و"الطير السجين"، و"هذه الدنيا سآمة"، و"انْفِ عنك الأحزان"، فضلا عن أن لغة أشعاره تقطر دما، وتصدر عن غلالة وجدانية مرهفة، ونفسية مرهقة؛ إذ أصبح الشعر معه، كما يقول الناقد عبده وازن: "شعر الذات". شعر يرصد كل ما يتعاور الكائن الإنساني من "ضعف وحيرة وخزي وإثم وندم ورفض وعنف ورقة وإيمان...". لذلك ألفينا السبل قد التبست عليه، وهو يتساءل: أيكون الهوى بقلبي خطايا؟ أو حين يصرف ألحاظنا إلى "صلاة المغيب"، المسكونة بخوف كاشف عن تأرجح صارخ بين الإثم والتوبة، وبين التوجس من العَذَاب، والتأنس بما مضى من اللحظات العِذَاب.
ونزداد اقتناعا بتخبطه حين يطالعنا بارتعاشة صوفية، يقول فيها: أنتِ أم أنا؟ ويتداخل فيها صوته بصوت المتنبي، عادلا بمتناصه من التقرير إلى الاستفهام: ومن في الهوى يُمْلَى عليه ومن يُمْلِي؟
لقد مزق أبو شبكة أسجاف روحه ونفسه، وجاس دياجيرهما، ليبوح بجرائره وجرائمه، ويبين عما استكَنَّ في الخفايا من خطايا، الأمر الذي يرسخ مفهوما جديدا للكتابة في عصره، يفيد تعرية الذات والكشف عن مخبوءاتها في جرأة تعلن التمرد على النظريات الأدبية والمواثيق النقدية، التي أبت إلا أن ترسخ وهما مؤداه أن "أعذب الشعر أكذبه"، فجاءت مقطوعته "أعذب الشعر" ذوب روحه وثوب جبلته، وتساكنت فيها صنوف الصنعة البلاغية واللغة البيانية، من جناس: (أقول لقلبي – وفي قلبها)، (وإن نطقت-إن نطق)، وطباق: (ما أصدق الندى- ما  أكذب الورق)، (ما أبلغ الشعر صامتا- ما أعذب الشعر إن نطق)، وصور شعرية: (كأنك ممدود بخيط من القلق- ما أكذب الورق- الشعر الصامت – مررت بألوان الكلام- كغيم خفيف يمسح النور وجهه...)، فضلا عن الحوارية: (أقول لقلبي). والنداء: (يا بصري – يا شعراء الأرض- يا أذن)، والنفي: (ما خفق)، والأمر: (حِدْ مرة عن طريقها – عَلَّمْ)، والتعجب: (ما أصدق الندى! – ما أكذب الورق!- ما أعذب الشعر إن نطق!). والشرط: (إذا ابتسمت ليلى- إن نظرت)، والنهي: (لا تَخْدَعْكٍ)... ليخلص إلى نتيجة ناسفة لما رسخ في الأعراف النقدية، من خلال قوله: ويا قلبُ عَلَّمْ: أعذبُ الشعرِ ما صَدَقْ.
وقوله أيضا:
اجرحِ القلب واسقِ شعرك منه
مصدر الصدق في الشعور هو القل
وإذا أنت لم تُعَذَّبْ  وتَغْمِسْ
فقوافيك زخرف وبريق (...)


فَدَمُ القلب خمرةُ الأقلام
ـب وفي القلب مهبط الإلهام
قلما في قرارة الآلام

جمالية المطابقة وصناعة المفارقة.
لولا أخاديد حفرتها الأيام والآلام في دخيلة الشاعر لما استمعنا، ولا استمتعنا بهذا العزف المتفرد، والمشبوب بعاطفة الحزن، ولسان الصدق، وجمال المفارقة.
فلئن انزاحت الكلمات عن حيزها المنطقي إلى الحيز الجمالي، فإن محمولها ظل مشدود الوثاق إلى الصدق، يوثق حقيقة الشاعر المتناقضة، ويجمع "بين النزعة الرومنطيقية والمدرسة الرمزية، بين الصوفية والتجربة الشهوية".
ويبدو أنه عاش غربة نفسية قاتلة، بكى بسببها الحال والمآل:
ماذا دهاه اليوم؟ الشهوات تعرف ما دهاهْ
ولكن سمعت الورد، ينكر فيسأل: "مَنْ تُرَاهْ؟"
والفجر، أصبح يعرف الدنيا جميعا... مَا عَدَاهْ.  
إنها مشاعر التيه والريبة، التي امتدت أيضا إلى أحب الناس إليه: وأخشى أن يصير الغزال، يامَيُّ، ذيب. ولعله يصر على صنع المفارقة، وهو الذي تغنى بحبيبته، وبنور حُسنها الذي أَبَرَّ على نور النجوم:
فإذا ما النجوم أبدت شعاعا




فشعاعٌ من حسنه يخفيه


كما أن حبها طالما سهده، "فسهر الظلام يرعى هواها".
انعكست تلك المشاعر على أشعاره، مع أنه يجهل سر كل هذه الآلام التي تنطوي عليها النفس البشرية، والمجترحة من توالي أيام العمر، ومن تعاقب فصول الطبيعة:
أيا جَرْسًا في هوة الدمع ناحبا
 

نحيبك ألحان الطبيعة والعمرِ

سمعتك جهرا تسكب الدمع في الورى



ولكن هذا الجهر روح من السر

بهذا الفهم، تُزْهِرُ أسرار نفس الشاعر في ذبذبات الصوت الناضح بالجروح، وتثوي خلف البوح روح منكسرة، ومتمردة، وحائرة، تدثرها المفارقات التي تتجاوز هذا الديوان إلى غيره. فديوانه "أفاعي الفردوس"، مثلا، يصدع بهذه المفارقة بين واقعه الموبوء الذي تحف به الأفاعي، وحلمه الطاهر بالفردوس المنشود. إنها مفارقة تستخبر كمية الشر التي تنطوي عليها الضمائر المستترة، وتجعل من الفردوس زهرة متمنعة تحيط بها الأشواك من كل جانب.
وأكثر من ذلك أن "المفارقة" تمتد امتداد كل لحظة من حياته؛ تمتد بين أمسه ويومه، وبين حاله ومآله، بل أدعي أنها تلازم كل لحظة من لحظاته:
- في عينيه من أمسه الأثيم حطام.
- فبكى ذاكرا عذوبة ماضيه.
يتحرك أبو شبكة بوازع من "ضمير الأثيم" الذي لا يهدأ. ولئن سألناه: تُرَى من يكون هذا الضمير؟ يبادر إلى الإجابة: ويح ضميري ليس هذا الجلاد إلا فؤادي!.
لقد أنضج صاحبنا تجربته "على نار المعاناة والألم"، واستقطر خلاصة روح متوترة ومتأثرة، وغمس قلمه في دواة النفس ليختط الندوب والفجائع، ويرتقي بها إلى مستوى "الجوهر" أو "الأمة الأزلية"، جاعلا من الطبيعة "جَوَّهُ الفسيح، تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه، وكذب على نفسه".
ولا جرم، فالشعر "سليل النفْس والنفَس"، وآلام نفسه "جمرة يستطير منها السعير".
الدمع وسؤال التطهير.
يقول أبو شبكة:
ومرارا لَزِمْتُ غرفة يأسي
غرفة الحزن، أنت تحوين صدرا


أنظم الشعر والهوى يمليه
كل ما في الوجود لا يحويه

  لقد ضاق الشاعر بالوجود ذرعا، وضاق به الوجود بما رحب. ومع ذلك، نلحظ إصراره العجيب، وإلحاحه على حب العذاب وعشق البكاء والدمع.
ولما كان الألم والدمع سليل الليل، والليل أيقونة الهم والتأمل في عرف الشعراء، فلا عجب أن يُشَعْرِنُ صاحبنا تأملاته، وهو الذي يؤمن أن "الشاعر قد يطرق باب الفلسفة" دون أن "ينحط عن الشعر". ولا عجب أيضا أن ينتصر لأبي العلاء، وهو "يقحم الفلسفة في شعره فيناقش فيها كالمعلم العالم".
ويبدو أنه استوحى منه فكرة أن دمع الشعر يغسل درن الأرض، كما استوحى منه أفكارا أخرى كثيرة، منها قوله:
خففي اليوم وطء مشيك كيلا


يصبح المشي نَقْلَةَ الراقصينا

في قصيدة "الحزن والجمال" التي تَرَسَّمَ فيها خطى معلقة عمرو بن كلثوم، إيقاعا ورويا.
لقد أَلِفَ الشاعر البكاء، حتى إنه صهر شعره دمعا:  
فدمعي شعر يقرأون سطوره


ودمعكِ أبيات من الشعر صامتهْ

وفي تصوري أن الشاعر كان يستشعر دنو أجله، الأمر الذي حدا به إلى اللواذ بدمع الهوى، فهو الضامن للشيوع والتداول، لأنه "من بنات الخلود".
سقط أبو شبكة ضحية "التناقض" اجتماعيا، و"المفارقة" إبداعيا، على نَحْوٍ "أذاقه العلقم، وأذاب قلبه كالشمع، وجفف عروقه من الدم". فقد رسف في شراك الخطيئة، وحلم بتخطيها، واستمسك بالأمل في ذروة الألم.
ومع أن العمر لم يسعفه، ولم يمهله إلا سنوات معدودات، فقد أطلق صرخات مدوية، خلفت في ديوان الشعر العربي صدى أزليا، ووضعت على جسده وشما خالدا؛ إذ عانى الجهد وعانقه لنعاين الشهد ونتذوقه.  
 

  

  

هناك تعليق واحد: