الثلاثاء، 31 مايو 2016

قراءة في قصيدة (طوفان غيمة ) لتوليب محمد علي المتقي كلية اللغة العربية

القصيدة 
     1
من طفلة الأمس

من بدء التّشكّل

صُغتُ ضفائري

جناحين ملوّنين

أراودُ السّماء لهوًا

وأصْغيْتُ لغيمة تناديني

فدنوْتُ...

وارْتَديتُها كَسِـرِّي

قد يأتي...!!!
     2     
من إعصار الوجْد
من دمي السّاهر
غزلتُ لكَ
لُهاث القلب
وسادة تنام عليها
وأسْريْتُ إلى غوايتي بكَ
وفتحتُ شرفتي على قوس طيْفِكَ
وما أتَيْتَ...!!!

 3     
من قيْد القلب

وركض الرّيح الشّريدة

واحتمال ماء السّراب

أدركتُ خسارة اليقين

وجحيم المسافات

وأعْلَنَ الهديلُ

احتفال العراء بي

وما أتَيْتَ...!!!

     4     
من قَبْري الجليد
ووحشة البياض
وجرح مفتوح
على ريح خرساء
وريح مكتظّة خرائب
أطفأتُ خُطاي إليكَ
وانعطفتُ إلى نحيب الظّلام
لِمَاذا الآنَ أتيـت...؟؟؟


     توليب




       يتألف عنوان قصيدة (طوفان غيمة) من كلمتين: طوفان وغيمة .ينتميان إلى حقل دلالي واحد هو الحقل المائي ، هذا الحقل في الثقافة العربية له وظيفتان : وظيفة إيجابية إذ يتحول الغيم إلى غيث فيسقي الأرض ويبعث فيها الحياة ، ووظيفة سلبية إذ يتحول الغيم نفسه إلى سيل جارف يحول الأرض إلى خراب .

     ارتبطت الغيمة في عنوان القصيدة بالطوفان، مما يوحي بأن الغيمة لن تكون إلا سيلا جارفا لا يبقي ولا يذر .     ماذا جرف السيل الجارف، هل طهر الأرض من بقايا خريف ليبعث الحياة من جديد، أم جرف طميها وحول بقايا أملها إلى يأس قاتل ؟
الوحدة الأولى: حلم يتشكل ويكبر :العلاقة بين الذات وموضوعها علاقة انسجام
                                         من طفلةالأمس
من بدء التّشكّل
صُغتُ ضفائري

جناحين ملوّنين

أراودُ السّماء لهوًا

وأصْغيْت ُلغيمة تناديني

فدنوْتُ...

وارْتَديتُها كَسِـرِّي

قد يأتي...!!!

     المقطع الأول من القصيدة يحكي عن حلم طفلة. يتشكل جسدها فيتشكل معه حلمها، وكلما نما الجسد إلا وكبر معه هذا الحلم . وكلما كبر الحلم، إلا وازدادت الرغبة في أن يتحول إلى حقيقة و إلى واقع .     ليتحقق هذا الحلم ويصير واقعا لا بد أولا أن يتشكل عبر القيام بأفعال متعددة أسندها المقطع الأول إلى الذات الشاعرة:
صغت ضفائري جناحين
أراود السماء لهوا

أصغيت لغيمة تناديني

دنوت

ارتديتها كسري


    لقد تخلصت الذات الشاعرة الحالمة من عجزها وواقعها، وحلقت بعيدا، والتحليق رمز   الحرية  لقد صارت مالكة لحلمها، تصنعه كيف تشاء، تحول ضفيرتيها إلى جناحين ملونين، فتراود السماء. والمراودة تعبير عن العشق والرغبة في القرب والوصال. راودت السماء،  لأن السماء وحدها في عرف الأطفال تصنع الغد. تراود السماء لكي تحقق ما يصوغه القلب وما يحلم به.
     ولأن السماء لا تتأخر في الاستجابة لدعوات الأطفال ومراوداتهم كانت الإجابة من الغيمة،  والغيمة ماء، و الماء رمز الخصب و البعث والحياة، الذي سيسقي الحلم لينمو ويكبر ويتحول إلى واقع. الماء وحده يقوم بفعل التجلي، فيخرج الحياة الموجودة بالقوة من باطن الأرض إلى واقع بارز على ظهرها، لذا لم تتردد الذات الحالمة في التماهي معه، هذا التماهي الذي جسده فعل ارتديتها كسري .     بعد هذا التماهي يظهر التجلي الأول للموضوع مختزلا في فعل واحد لم يتحقق بعد، لكن كل شروط تحققه متوفرة، لذا جاء مقترنا بحرف التحقق : قد يأتي...!!!متبوعا بثلاث علامات للتعجب، ونقط للحذف. علامات التعجب المظهر الكتابي للانبهار و الإعجاب، والأمر أيضا ( ما أعجب و أعجب به) فصيغ الأمر أيضا تنتهي بالتعجب. فالذات الشاعرة تحلم، ولها أن تراود السماء أو تأمر، وليس أمام السماء إلا الاستجابة. 
     في هذه الوحدة، كانت الذات الشاعرة فاعلا أساس لأفعال متعددة .وموضوعها المبهم يعبر عنه ضمير مستتر غائب فاعل لفعل لم يتحقق بعد:  قد يأتي لكن كل شروط تحوله من الاستتار إلى الظهور ومن الغياب إلى الحضور متوفرة. تحليق، فمراودة، فاستجابة متجلية في النداء، فإصغاء، فارتداء . لذا لم تتردد الذات الحالمة في استعمال حرف التحقيق : قد يأتي .

الوحدة الثانية:إعصار الوجد و إصرار الذات على الوصال
                                       من إعصار الوجْد
من دمي السّاهر
غزلتُ لكَ

لُهاث القلب

وسادة تنام عليها

وأسْريْتُ إلى غوايتي بكَ

وفتحتُ شرفتي على قوس طيْفِكَ

وماأتَيْتَ...!!!

       في الوحدة الثانية، تتحول الغيمة البسيطة التي تراودها الذات الحالمة إلى إعصار داخلي، إعصار من الوجد، والوجد عشق بل أقصى درجات العشق، و العشق ماؤه دم ، فكما تحولت الغيمة إلى إعصار جارف من الوجد، تحول ماؤها إلى دم ساهر. يكبر الحلم ويصير في حجم الإعصار. وكما ارتدت الذات الشاعرة الحالمة غيمة في الوحدة الأول، غزلت ونسجت من حلمها وسادة نوم لموضوعها الذي تحول من ضمير غائب إلى ضمير مخاطب حاضر ( كاف الخطاب في غزلت لك ) وفعل الارتداء وفعل الغزل من حقل دلالي واحد ، ما يغزل هو ما يرتدى . و الأجمل أن تغزل الوسادة رمز النوم و السكون والحلم من الوجد الموصوف بالإعصار و الدم الموصوف بالسهر. فالإعصار و السهر حركة، والنوم سكون ، وعلى الرغم من التناقض الظاهر بين مادة الغزل ومنتوج الغزل، فإن الوسادة جزء من سرير العشق والوجد الذي يطفئ الإعصار ويلطفه ويحوله إلى غيمة خصب .    إن الذات الشاعرة الحالمة لا تعرف الهدوء ولا النوم: إعصار ودم ساهر وقلب لاهث وإسراء (السفر ليلا) نحو موضوعها. لها شرفة واحدة مشرعة نحو قوس طيفه ، والطيف كائن ليلي يزور في الحلم .لكن الموضوع المختزل في كاف الخطاب في هذه الوحدة يخلف الوعد ـ وما أتيت ـ فيتحول حرف التحقيق في الوحدة الأولى ـ قد ــ إلى حرف نفي في الوحدة الثانية ،(ما أتيت ) ينفي الحلم ويحطم حلم الذات الحالمة .

الوحدة الثالثة : خسارة اليقين ،وبداية انكسار الحلم
                                         من قيْد القلب
وركض الرّيح الشّريدة
واحتمال ماء السّراب

أدركتُ خسارة اليقين

وجحيم المسافات

وأعْلَنَ الهديلُ

احتفال العراء بي

وماأتَيْتَ...!!!


        في الوحدة الثالثة، يبدأ الحلم في الانكسار، فالقلب مصدر الإعصار والدم الساهر والإسراء إلى الغواية أصبح له قيدا ، يحد من إعصاره ، ومن فوران دمه ، و الإعصار صار ريحا موصوفة بالتشرد ، الذي يفيد الضياع ، و الماء الذي تحول إلى دم ساهر في الوحدة الثانية صار سرابا ، بل مجرد احتمال ماء السراب . ومن هذه الصفات الثلاث الذي وصفت القلب والريح والماء )القيد و الشريدة و السراب (تحول اليقين الذي يفيده حرف التحقيق في الوحدة الأولى(  قد)إلى خسارة (أدركت خسارة اليقين ). وتحول التحليق الذي يفيد الحرية و لإسراء بما يحمله من حمولة دينية تحبل بها قصة الإسراء والمعراج ، إلى جحيم مسافات فيعلن الهديل احتفال العراء بالذات الشاعرة الحالمة . الهديل بكاء ورثاء الحمام الذي فقد إلفه وبقي وحيدا كما تحكي الأسطورة ، وكما يحكي الشعر العربي ( قصيدة غير مجد في ملتي واعتقادي لأبي العلاء نموذجا ) وعلى الرغم من إيجابية فعل الاحتفال، فالذي يقوم به هو العراء ، ويعلنه الهديل مما يفقده كل إيجابية . فتؤكد الذات الشاعرة نفي فعل المجيء و تحقيق الوصال ـ وما أتيت ـ .
    ومن السمات الأسلوبية لهذه التحول من الأمل إلى اليأس ، ومن يقين الوصل إلى إدراك الخسارة، تحول الذات الشاعرة من ذات فاعلة لعدة أفعال إلى ذات سلبية منفعلة . ففي الوحدة الأولى هناك خمسة أفعال :( صغت ـ أراود ـ أصغيت ـ دنوت ـ أرتدي ) وفي الوحدةالثانية اكتفت الذات الشاعرة بثلاثة أفعال ( غزلت ، أسريت ، فتحت) وفي الوحدة الثالثة صار الفعل فعلا واحد ( أدركت ) وحتى هذا الإدراك صار سلبا لأن مفعوله ليس سوى خسارة اليقين الذي تحيا به هذه الذات .

الوحدة الرابعة : نهاية الحلم
 من قَبْري الجليد
ووحشة البياض
وجرح مفتوح

على ريح خرساء

وريح مكتظّة خرائب

أطفأتُ خُطاي إليكَ

وانعطفتُ إلى نحيب الظّلام

لِمَاذا الآن َأتيـت...؟؟؟



    في الوحدة الرابعة ينتهي كل شيء إلى أقصى درجة على حد تعبير هايدجر، فالتحليق ومراودة السماء الذي تحول إلى إسراء في اتجاه الإغواء ، ثم إلى جحيم مسافات ، ينتهي إلى قبر . تنتهي الحركة في أقصى سرعتها إلى صمت في أقصى صوره ( الموت) الذي يوحي به القبر، قبر الذات الشاعرة الحالمة . من العالم العلوي إلى العالم السفلي.
    ويتحول ماء الغيمة الذي صار دما ساهرا فسرابا إلى جليد ، ففي الماء والدم والسراب حركة، وفي الجليد سكون وموت( من السيولة إلى الجماد).
      ويتحول لون الجناحين بما يفيده من جمال و ألفة الذي صار قوس طيف ( للطيف ألوان سبعة ) إلى وحشة بياض الذي ليس سوى لون الكفن الذي يحيل هو الآخر إلى الموت (من ألوان الحياة والألفة إلى لون الوحشة و الموت.)
     والريح الذي تحرك الغيمة  صارت ريحا شريدة ، صارت ريحا خرساء ومكتظة خرائب. ألم تكن الغيمة تنادي و الذات الشاعرة الحالمة تصغي في الوحدة الأولى ؟ إن الإصغاء صار خرسا . فصارت الريح تدميرية  لا تأتي إلا بالخراب.(من الخصب إلى التدمير)
    في هذه الشروط الجديدة التي تحيط بالذات الشاعرة الحالمة تنكسر الذات ، وتنتهي رحلتها، لتنطفئ الخطوات في قبر الجليد، ويتحول النداء والإصغاء والهديل إلى نحيب في الظلام الذي لم يكتب له أن يتحول إلى إصباح . وفي آخر جملة من القصيدة تحدث المفارقة الكبرى الذي تتجسد في تحقق مجيء الموضوع المخاطب .( لماذا الآن أتيت ؟) لكن بماذا يفيد هذا المجيء بعد أن وصل كل شيء إلى نهايته ؟ هذا ما يعبر عنه الاستفهام الإنكاري الذي حل محل التعجب .    تحقق القصيدة إذن مفارقة بين زمن الأمس زمن الحلم و الطفولة في الوحدة الأولى ، والآنا الحاضر زمن الواقع و اليأس و الموت . وبين الأمس واليوم ، بين الحلم والواقع جرت مياه تحت الجسر، ومرت رياح تارة بما تشتهي الذات الشاعرة ، و في أغلب الأحوال بما لا تشتهيه ، ذاك الذي ولد التجربة الشعرية بكل زخمها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق