حركية البديع:
من صدام الشعر إلى صدمة النقد.
إنجاز: د. الحسين أيت مبارك
كلية اللغة العربية- مراكش.
مقدمة:
تنبثق
الأعمال العلمية والأكاديمية المهمة من رحم النصَب والتعب والجهد والكد. ولا يتأتى
لها انتزاع الثناء، وافتراعُ آفاقِ النبوغ والفرادة والألق، إلا بعقب أن يسقي
الباحث أيام عمره المتلاحقات عرقا ويشقيَها أرقا.
ولأن
لكل حكاية بداية، فوجه هذا السِّفر الجليل "حركية البديع في الخطاب الشعري
(من التحسين إلى التكوين)"[1] قد عَنَّت
ملامحه مبكرا، مع أسئلة حارقة، كانت في عوز إلى الاستواء والنضج، لأنها - بكل ما
تحبل به من عفوية- إشراقاتُ قلب متوقد وعقل مجتهد بإفضاءاته الأولى في فضاء الدرس
الجامعي. ومع أن عود الباحث لا يزال غضا حينها، فقد قلى كلَّ صوت إلا همس إحساسه
وذوقه، نازعا إلى مشاكسة الثابت، والانخراط في استجماع أولى خيوط المغامرة في
نظيمة بحث الإجازة عن عبد القاهر الجرجاني. ثم راح يسحب عنها أسجاف السذاجة وظلال
العفوية، ويتحول بها من مرحلة الحماسة والنزق إلى مرحلة النسق، في بحث الماستر، أو
ما كان يسمى بدبلوم الدراسات العليا المعمقة، الموسوم بـ" البديع بين تعدد
الأسئلة والاشتغال النصي إلى نهاية القرن الهجري الرابع".[2]
وقوى
الدكتور سعيد العوادي هذا المسار بباكورة كتبه "أسئلة البديع: عودة إلى
النصوص البلاغية الأولى"[3]. واستمر
تأمله على امتداد هذه السنوات واختمر حتى أثمر - في ختام المطاف- هذا العملَ
الجامع لأطراف البديع، والمستقرئ لأساليبه، والباحث عن أنساقه ووظائفه، والذي تثوي
خلف تأليفه دافع وأسباب، منها:
1-
الرغبة في تجديد الرؤية، ما يدثر العمل بوشاح الشرعية، مع الاعتراف بصعوبة تأسيس
صرح مخالف للمعهود، لأن ذلك أشبه بمن يدعي القدرة على تفتيق الأنهار من بلقع يباب.
2-
روح التمرد والتفرد الموصولة بثقة علمية قوية، وحماسة متوثبة.
3-
فتح نافذة جديدة على البديع، يُسائل منها ما تراكم من آراء وما تكرس وتكلس من
أحكام تحاصره في زاوية التحسين الضيقة.
4-
الارتفاع بالبديع من مجرد ربطه بأبي تمام إلى عَدَّه حركة قائمة بذاتها ينهض بها
سبعة شعراء.
5-
كان شعر البديع يُقرأ مجتزءا ومجتثا من سياقاته، وذلك بحثا عن الشواهد؛ إذ بدل أن
تكون البلاغة البديعية خادمة للشعر، بقي الشعر هو الذي يمدها بالشواهد.
استنارة
بهذه الدوافع، شطرت مداخلتي إلى العنوانات الآتية:
1-
تضايف الرصيد المعرفي والرصيد المنهجي.
2-
المدونة البديعية: رهان الشمولية وسؤال الرؤية.
3-
منزع التوثيق ونمط الإحالة.
4-
سؤال الشاهد وهاجس التصديق.
5-
من مزايا الكتاب وسجايا الكاتب.
1- تضايف
الرصيد المعرفي والرصيد المنهجي:
تَهَوَّس
الدكتور سعيد العوادي بالبديع، وتغشته دهشتُهُ الجمالية، فكان سادرا في إحساسه بأن
المقومات البديعية قد أُخِذَتْ على غرها دون استكناه غورها، ما جعل نفسه تشرئب نحو
حقيقته لتداركها قبل أن تأفل شمسها. وهذا ما حفزه
-مسنودا بسعة المقروئية- على ولوج مغامرة السعي إلى التعديل من طقوس معرفية راسخة. مغامرة مسكونة بشهوة التمرد، قادته إلى أن يجوس أضرب البديع ودروبه بحثا عن حقيقة التكوين التي أضاعها النقد وهو يركض خلف مظاهر التحسين.
-مسنودا بسعة المقروئية- على ولوج مغامرة السعي إلى التعديل من طقوس معرفية راسخة. مغامرة مسكونة بشهوة التمرد، قادته إلى أن يجوس أضرب البديع ودروبه بحثا عن حقيقة التكوين التي أضاعها النقد وهو يركض خلف مظاهر التحسين.
والثابت
أن الباحث قد شق هذا المضمار متسلحا برصيد معرفي كبير، تنم المدونة المرصودة عن
قيمته الكمية والكيفية، وواعيا بأثر الأنساق المعرفية في وصل القارئ بالمقروء،
الأمر الذي أفضى بالباحث إلى اعتماد جملة من المصادر قلما يُلتفت إليها، نذكر
منها:
-
الأطول لإبراهيم بن محمد عربشاه.
-
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي
منصور الثعالبي.
-
جامع العبارات في تحقيق الاستعارات، لأحمد مصطفى الطرودي.
-
جنى الجناس، لجلال الدين السيوطي.
-
جنان الجناس، لخليل بن أيبك الصفدي.
-
جوهر الكنز، لابن الأثير.
-
طراز الحلة وشفاء الغلة، لأبي جعفر الرعيني.
-
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، لزكرياء القزويني.
-
الغيث المسجم في شرح لامية العجم، لابن أبي الحديد.
-
مختار الأغاني في الأخبار والتهاني، لابن منظور.
-
مختار الصحاح، لعبد القادر الرازي.
-
مطلع الفوائد ومجمع الفرائد، لابن نباتة المصري.
-
المطول، لسعد الدين التفتزاني.
-
مقدمة تفسير ابن النقيب.
-
مواد البيان، لابن خلف الكاتب.
إن
اتساع المقروئية وتنوع مجالاتها قد أثرا تأثيرا جليا في دقة التقسيم والتفريع، وبراعة الرصف، وسيرورة
المادة المعرفية، وصياغة العنوانات المركزية والهامشية، وفي بناء الأطروحة من
مبتدئها إلى منتهاها، إذ تشعرك فصول العمل وتفاصيله بتعالقها واتساقها، حتى لكأنها
لبنات لصرح، إذا حُذفت إحداها اختل البناء.
ويظهر
أثر هذه المقروئية أيضا في ما نشب بنفسه وتَأَشَّبَ فيها من قلق الإشكالات وهمِّ صياغتها، واقتراح الفرضيات
في سياقات استفهامية مطردة اطراد العمل.
ولئن
دل هذا الصنيع على شيء، فإنما يدل على ما تأثل للباحث من مقومات علمية، وعلى طموحه
الجامح، ورغبته في تفتيق آفاق جديدة ومسارب مختلفة لموضوع دراسته. ويدل أيضا على أن
هذا العمل -على فرادة نتائجه وتميزها- لا يعدو أن يكون حلقة من حلقات حلم نستشرف
من الآن مخايل عظمته وقوته.
إن
لعبة السؤال والجواب قد استهوت الدكتور سعيد العوادي، فاستهلك عمله في الإجابة عن
أسئلة أثث بها المقدمة؛ إذ انجدلت فصول الأطروحة في ضفيرة متماسكة يصعب لثم إحدى خُصلها،
بدءا من "حركة البديع بين الاعتراض والاقتراض" وعطفا على "فاعلية
التوازن" ثم "توترية المفارقة"
وانتهاء بـ "دينامية الحجاج".
ولعل
هذا التنويع في الأسئلة يفسر تعدد المداخل القرائية والمنهجية، ذلك أن العمل قد
تسلح أيضا برصيد منهجي كفيل بالنهوض بأعباء أطروحة من هذا العيار والحجم، ما
يدفعنا إلى مشاطرة الباحث تساؤلاته، التي مؤداها:[4]
-
كيف يمكن الجمع بين الأسلوبية والحجاج في شبكة واحدة؟.
- وكيف وفق شعراء البديع بين جمال الإمتاع وجلال الإقناع؟.
- وما هي الإمكانات التي تم توظيفها للجمع بين التناص والسرقات
والحجاج في نسق واحد؟.
لا أشك في أن البديع نقطة جاذبة لهذا الموزاييك المنهجي،
ولا مراء أن الباحث قد أدار مصنفه باقتدار على فكرة استقطاب كل ما يساهم في تطور موضوعه،
فلم يعدم مسوغات الجمع بين مشارب منهجية متعددة، في رؤية تكاملية نافذة.
ومن شأن الناظر في الكتاب أن يشف أنه قبس من هذه المناهج
والنظريات ما يوائم المدونة البديعية، ويستجيب لأساليبها، كما لا يخفى ما للأسلوبية
من صلات بالبلاغة،[5]
إذ نشأت من رحمها، علاوة على أن للتناص عرق في السرقات،[6] وفي الحجاج
أيضا، بالنظر إلى كونه منهجا في الاستدلال، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمان[7].
2- المدونة البديعية: رهان الشمولية وسؤال الرؤية.
إن المنطق الذي يتحكم في كل إنتاج أو إبداع هو الاستجابة
للسنن الكونية، على مباينة ما يظهره سطحها لما طُمِرَ من انسجام في عمقها.
بهذا التصور، آمن شعراء البديع بأن "التجديد فعل ثوري
يزحزح القيم الجمالية الماضوية وأن للجديد "لذة" تدفع صاحبها إلى الانغماس
الكلي لتلبية "وطر الذات" بما يضمر أنها لذاذة البحث عن قيم جديدة وآفاق
مغايرة".[8]
أضف إلى ذلك أن ما واجه الحركة البديعية من رفض ونقض يدل على قوة "ما أحدثته من
رجة تحويلية في مفهوم الشعر وتقاليد ممارسته وتلقيه..."[9]
والحال أن "الجدة" إنما تتأتى بالحوافز الحضارية
والفكرية المتحولة لتأسيس أنموذج جمالي جديد، تنسجم فيه الذات مع رؤيتها للوجود وللعالم
المحسوس وغير المحسوس.
ويبدو أن الحركة البديعية لم تشذ عن هذا الواقع، الذي كانت
فيه اللغة مرآة للفكر، فسارت وفق مسارات ثلاثة حددها العوادي في:
- القصيدة - الرفض.
- القصيدة - الفكر.
- القصيدة- الإتقان.[10]
غير أن النقاد أدركوا ما أحاط به البصر وهو اللغة، وغفلوا
عما تنفذ إليه البصيرة وهو الفكر والتصور، الذي "يصل إلى مشارف الإطلال على العالم
من خلال منظور ينفض عن الأشياء سذاجتها الظاهرة ليتأمل أعماقها البعيدة؛ فإذا كانت
رؤية البيان تفهم الشعر على أنه إفصاح واضح عن منازع الذات وشرطها الحضاري والتاريخي،
قياسا إلى كون العالم بيانا عن خالق الكون، فإن رؤية البديع تتوغل نحو اعتبار الشعر
لوحة بديعة تعكس صور العالم اللطيفة، وتوازناته العجيبة، وتضاداته المفارقة.. التي
تحيل في المحصلة على "بديع" السموات والأرض[11].
لم يكن من السهل على البديعيين تحدي الرؤية البيانية الراسخة
والمحايثة لنسق ثقافي متجذر يؤمن بأن" البيان" أيقونة دالة على العروبة،
والعروبة والعربية والإعراب تحيل جميعها على معاني الإفصاح والبيان، بل إن قولنا امرأة
عروب بمعنى المتحببة إلى زوجها، أي صريحة الحب له، دون أن نغفل عن كون البيان -في عرف
الجاحظ - مزية تنفرد بها الأمة العربية.
بهذا الفهم، تنتفي الغرابة حينما نجد أبا تمام يبدع القصيدة
البديعية بوصفها قطعة من الكون البديع، وينصح تلميذه البحتري بإنتاج القصيدة البيانية
المؤسسة على أن العالم بيان واضح وإفصاح جلي عن خالق الوجود، الأمر الذي يدل دلالة
صريحة على روح التجاور والتحاور، بل روح التكامل التي ينبغي أن تحكم العلاقة بين الرؤيتين
البيانية والبديعية.
لما كان الإنسان جزءا من حركة الكون، فلا غرو أن يكون الإبداع
مدخلا إلى قراءة ما راكمته الذات المبدعة من تجارب وخبرات، ومِجَسَّا للأحاسيس المتولدة
من سيرورة الحياة بأحداثها وأحاديثها. أحاسيس ومشاعر موصولة بالماضي والحاضر والمستقبل.
هذا التاريخ المتساند والمتنافذ الذي نستكنهه من ثنايا الاستعارات والكنايات والرموز
والأساطير ومختلف الصور التعبيرية.
فلا جرم أن يكون النزوع البديعي استجابة لرؤية مشبعة بمظاهر
هذا العالم البديعة. فالخالق عز وجل قد أشاع صور الجمال في الآفاق؛ إذ وضع كل شيء بمقدار،
وخلق الإنسان في أحسن تقويم، الأمر الذي يضفي المشروعية على الحركة البديعية المنبثقة
من حركة الكون.
إن الرؤية البديعية، بهذا الفهم، هي الوجه الثاني لحقيقة
الكون[12]، والرؤية
البيانية وجهها الأول. والحديث عن الكون يوري الحديث عن خالق الكون، فهو تعالى معلم
البيان، وبديع السموات والأرض.
تمثل المقومات البديعية (التجنيس والتقابل ورد الأعجاز على
الصدور، والتناسب والتصريع والترصيع وغيرها). صورا من صور الانسجام والتناغم داخل النسق
اللغوي، الأمر الذي ينم عن "البحث الإنساني الدؤوب عن التوافق والانسجام،"[13] وعن التوق
إلى عالم "دافق ودافئ يذكر بتناغم الزمن الرحمي"[14].
يسعى المبدع، إذا، إلى إبراز مكنوناته في معرض حسن، حتى لا
تبلى تلك المعاني، بل إنه يؤمل أن تصمد وتخلد كما تخلد محاسن الكون ومعاني الوجود.
فالإنسان بوصفه جزءا "من الكون، يتسامى ويحلم ويتخيل ويتماهى ويتقمص..."[15]، والكون
بوصفه "معطى من الأشياء، الساكنة والمتحركة، فيتولد عنه الشعور بالاندماج أو الانسجام
والتداخل(...)، فالكون نسق واحد، وإن كان يبدو أنساقا متعددة، فهي أنساق متراكبة أو
متناسقة، بحكم كونها انساقا أولا، وبالنظر إلى وحدة الذهن البشري ثانيا. وهذا ما يبعث
في الإنسان الإحساس بالانتماء إلى كل الأزمنة الكونية من خلال اللغة: حركة الذهن ورعشة
الحياة".[16]
من طي ما سلف، يمكن أن نتصور كيف تسلل البديع إلى بهو الحضارة
ليعلن عن نسق يناغي الكون ويناغمه.
3 - منزع التوثيق ونمط الإحالة.
لقد نسي الجماء الغفير من الباحثين أو تناسى أن المنحى البديعي
استوى واستقوى في وقت ركدت فيه ريح الأدب، فكان حلا سحريا للمحنة التي جهر بها صاحب
العيار.
من هذا المنطلق، سَدِم الباحث بإنصاف البديع الذي جارت عليه
القراءات النمطية المكرورة، التي ينسحب بعضها على أذيال بعض، فرفض الباحث أن يتحرك
في حيز المألوف، أو يثمن الادعاء بالدعاء.
ويبدو أن الدكتور محمد زهير كان محقا حينما أشار في تصديره
للكتاب إلى أن "الأستاذ سعيد العوادي قد راهن على المسلك الصعب في بحث قيم أسلوبية
راقية، ذات نفاذ إشعاعي أفقي وعمودي، في بنية النص الأدبي".[17]
والثابت أن الدكتور سعيد العوادي قد استقرأ صور البديع واستقصى
وجوهه، وأدرك ما نَدَّ على كثير من مرتادي هذا المضمار واستعصى على مريديه، وجعل من
سعة الاطلاع جسره إلى هذا المطلب العزيز؛ إذ تنوعت مقروءاته بين التراثي والحداثي،
وبين العربي (216 مصدرا ومرجعا)، والغربي (10مراجع)، كما شملت مكتبته مجالات معرفية
توزعت بين الأدب والنقد والبلاغة والعروض والإيقاع والصوتيات واللغويات والنحو والصرف
والإعجاز وعلوم القرآن والتفسير والقراءات والحديث، وبلاغة الحجاج واللسانيات والأسلوبية
ونظرية التلقي ونظرية التناص والشعرية والتاريخ والفكر والفلسفة وكتب الأمثال والمعاجم
والفنون والثقافة العامة.
وانطوت صفحات سِفره الثلاثِمائة وثلاثٍ وثلاثين (333) على
واحد وثلاثين ومائة وألف (1131) إحالة بمعدل 3.39 إحالة لكل صفحة وهو معدل جيد ومهم،
ودال على الأمانة العلمية.
تنضاف إلى هذا، قدرته الخاصة على استغلال فضاء الهامش لتدعيم
المتن وبيان مشكلاته وإيضاح غوامضه وإضاءة عتماته، مراوحا بين أنماط من الإحالات، نسردها
كالآتي:
1-إحالات تسجيلية: تشير إلى مواضع النصوص المستشهد بها ومواقعها
من المؤلفات. وهي الغالبة على الكتاب.[18]
2-إحالات سجالية: ويفردها للردود والمناقشات العلمية الرصينة.[19]
3-إحالات تعليلية: تنهض بمهمة البيان والتفسير.[20]
4-إحالات تأصيلية: ويروم من خلال هذا النمط من الإحالة رد
بعض الأفكار المستجدة والحديثة أو المقتبسة من الثقافة الغربية إلى أصلها العربي وبيان
أصالة تربتها[21].
5- إحالات توسيعية: تنزع إلى الاستفاضة في الإشارات الموجزة
في المتن.[22]
6- إحالات ماهوية تعريفية: وهي إحالات تقف على مفاهيم بعض
المصطلحات، وتحدد ماهيتها.[23]
7- إحالات تعضيدية: وتستكين إلى الدعم والتعضيد، وتسير غالبا
في منحى الموافقة.[24]
8-
إحالات توجيهية: وهي من النمط الذي يستشرف المناطق البكر من البحث العلمي، ويعمد
إلى تبصرة الباحثين بالآفاق الجديدة، وإرشادهم إلى مواطن السؤال وبواطن السجال.[25]
4- سؤال
الشاهد وهاجس التصديق.
جرى
الباحث سعيد العوادي ملء أشواطه للتدليل على أطروحته القائمة على فاعلية البديع في
صنع الدلالة. ولما كان "مدار العلم على الشاهد والمثل" كما يقول الجاحظ،[26] فقد أَذِنَ
سعيد لسعد البديع بالصعود، وحاجج عن بهاراته التحسينية ومهاراته التكوينية، ليأتي
بما غفل عنه الأوائل؛ إذ حشد واحدا وستين وخمسمائة بيت شعري (561)، تنضاف إليها
خمسة أبيات في الهوامش، لتدعيم مواقفه، وتقوية مسالكه الاستدلالية، فأصاب بالشواهد
شاكلتها.
ولأن
إبداعية النص الشعري لا تنفك عن بديعيته، حتى إنه ليمكن "عد البديع لغة الشعر
العليا"،[27]
كما يرى الدكتور محمد زهير، فإنني سأعرض لأنموذج تمثيلي اكتفاء لا استيفاء، وهو
لمنصور النمري في مسألة الاقتراض، وهو من الشعراء المغمورين. اتصل اتصالا وثيقا
بالرشيد، فكان شاعره الأول. ولأنه شيعي، فقد كان مع العباسيين قالبا، ومع العلويين
قلبا، ما جعله يلوذ بالتقية المذهبية المتجلاة في التقية الأسلوبية (أسلوب التورية
البديعي)، التي أسعفته في التعبير عن مشاعره الحقيقية دون أن يمسه مكروه من
الرشيد، "من ذلك أن منصورا يعمد كثيرا إلى ذكر ممدوحه باسم هرون عوض الرشيد بما
يدعم توجهه الملتوي والذي تسنده التورية التي تلوح في الاسم الأول. وتأكيد ذلك أن
الجاحظ انتبه بنافذ بصيرته إلى أن "منصور النمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في
شعره؛ ويريه أنه من وجوه شيعته، وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين عليه السلام،
لقول النبي عليه السلام: "أنت مني بمنزلة هرون من موسى"، مما يدل على أن
كلمة (هرون) تحتمل معنيين:
أحدهما
قريب متجاوز مرتبط بهرون الرشيد، والآخر بعيد مرغوب دال على علي بن أبي طالب.
ومثاله
قول الشاعر:
رَضِيتُ حُكْمَكَ
لا أرضى به بدلا
آلُ الرسول خِيَارُ الناس كلهم |
|
لأن حكمك بالتوفيق
مقرون
وخيرُ آل رسول الله هارون."[28] |
ويمضي
النمري على منطقه المغالط في كل أشعاره المدحية، جاعلا من البديع مطية للتلبيس
والتدليس. وقد أورد الباحث شواهد دالة على مباينة ما يظهره النمري لما يضمره، من
ذلك قوله أيضا:
بورك هارون من إمام
له إلى ذي الجلالَ قربى يسعى على أمة تَمَنَّى لو استطاعَتْ لقاسمَتْهُ يا خير ماض وخير باق |
|
بطاعة الله ذي
اعتصام
ليست لعدل ولا إمام لوتَقِيه من الحِمـام أعمارَها قسمة السهام بعد النبيين في الأنام.[29] |
5-من مزايا
الكتاب وسجايا الكاتب.
لقد
أبى الدكتور سعيد العوادي أن يأخذ موقعه مع الخوالف في معترك السجال، فجاهد واجتهد
ليجد لنفسه موطئ قدم ضمن المواكب التي لم تنفك عن التدافع المعرفي، وعن الانخراط
في جدلية المحو والإضافة.
وتجرد
لاستقطار رحيق المعارف، لتعينه على بث الحياة في جسد بديعي حنطه النقاد
والبلاغيون، فجاء سِفره مجانسا لموسوعة بديعية حُينت مفاهيمها ومصطلحاتها، وأُحكمت
مساربها وضُبطت مسالكها.
وفي
تصوري أنه، وإن زج بنفسه في غمار التمرد والتفرد، كان يخاصب نظرات القدامى دون أن
يخاصمها، ويتواصل مع التراث تواصل إضافة لا تواصل اجترار، استلهاما ما لروح الحركة
البديعية نفسها التي "تأصلت من الموروث لتغايره، بما أضافت إليه."[30]
وبيان
ما سلف أن الدكتور سعيد العوادي قد غرد وحيدا خارج سرب النقد البديعي، ليجد القارئ
نفسه أمام تمرد في الحديث عن التمرد؛ إذ غب صدام الرؤيتين البيانية والبديعية إبان
العهد العباسي وما تلاه، ونزوع الثانية إلى كسر عصا الطاعة والخروج عن طرق التعبير
الشائعة، تأتي صدمة القول بتكوينية البديع مع صاحبنا، مما لا أشك أنه سيريق كثيراً
من المداد في مستقبل الأيام.
ومهما
يكن من أمر، فقد كان العوادي ذكيا حين قبس من الجاحظ وابن رشيق إشارتهما إلى بعض
الشعراء البديعيين الذين خمل ذكرهم (ابن هرمة – منصور النمري – العتابي)، فأدرك أن
قراءة التراث ينبغي أن تنطلق من مدخل يضمن للقراءة انسجامها وتناغمها، الأمر الذي
جعله يرتقي بالبديع إلى مقام "الحركة" على ما بين روادها السبعة من
اختلاف في نمط التثمير.
من
هذا المنطلق، يمكن تعداد مزايا هذا المصنَّف، وسجايا مُدبِّجه في البيانات الآتية:
-
مراجعة بعض الأحكام المعيارية الجاهزة.
-
إعادة النظر فيما رسخته بعض القضايا النقدية كالطبع والصنعة مثلا.
-
ضرورة البحث في أسلوبية البديع من منظور القيمة المهيمنة.
-
تجاوز الفصل المخل بين أنماط المحسنات.
-
تمحيص الاصطلاحات ودرء الاختلافات القائمة بشأنها.
-
اختزال كثير منها في اصطلاحات نسقية موسَّعة وجامعة، وتخليصها من الغلو في التقسيم
والتفريع.
-
انتخال المناحي الوظيفية من المناهج والنظريات، واستجابتها لمقتضيات المدونة
(كالأسلوبية والحجاج والتناص وغيرها.).
-
الاستعانة بالأشكال البيانية والجداول الموضحة.[31]
-
التنبه إلى أن تمايز توجهات عناصر الحركة البديعية، يستلزم حشد كل ما يمكن أن
يسعفه في الرصد والنقد، وأن يتيح له هوامش فسيحة للتحليل والتدليل والتأويل.
-
اطِّراحُ النزوعات الهووية التي تعمد إلى انتقاء نماذج واتقاء أخرى، وإعمال شواهد وإهمال غيرها.
-
اعتماد لغة واصفة تراوح بين القِدم والحداثة، وتصل وصلا لافتا بين زمن القارئ وزمن
المقروء، من حيث مراعاة موقع هذا، ومقتضيات ذاك. فكان من أهم خصائصها الوضوح
والدقة والقدرة على إنجاز فروض التحليل والتأويل. ولذلك لم يكن العوادي يفتر عن
تأطير عمله وتنظيمه بالمفاهيم والاصطلاحات، خيفة أن تُدلِفَ بمشروعه إلى حيز
الانطباعية والذاتية.
-
وعلى سبيل الختم، نشعر أن المعارف المتراكمة والمتراكبة، والمواكبة لسيرورة الحياة
وتطور الزمن، والطفرة المنهاجية الناتئة، قد ساهمتا في تنمية إدراك الباحث وتقوية
فهومه وتمثلاته للتراث البديعي؛ إذ لم يكد يتجرد من عَبَاءَةِ هذا العمل وأعبائه
حتى طَفِقَ يخط أسئلة جديدة[32] تدعو
إلى قراءة البديع القرآني قراءة حضارية، وإعادة استكشاف ما تحفل به المقامات،
وعنوانات الكتب، ومقدماتها من مظاهر البديع، فضلا عن ضرورة استخبار حقيقة القرون
السبعة التي وُسِمَت بالانحطاط، دون نسيان النظر إلى تجليات البديع في حياتنا
وخطاباتنا المعاصرة كخطاب الإشهار مثلا.
وعليه،
لا يسعنا إلاَّ أن نُقِرَّهُ – مطمئنين– على اختياراته، التي كانت مُوَفِّقَةٌ
ومُوَفَّقةٌ، إن على مستوى الموضوع أو الأهداف أو المنهج.
[1] - حركية البديع في الخطاب الشعري – من التحسين
إلى التكوين – د، سعيد العوادي - دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن
– ط1 -2014م – (دراسات بديعية (2)).
[2] - البديع بين تعدد الأسئلة والاشتغال النصي
إلى نهاية القرن الهجري الرابع - سعيد
العوادي – رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة – مرقونة بكلية اللغة العربية
– مراكش – السنة الجامعية 2003-2004.
[3] - أسئلة البديع، عودة إلى النصوص البلاغية الأولى- سعيد العوادي – المطبعة
والوراقة الوطنية – مراكش المغرب – ط1-2009م-(دراسات بديعية1).
[5] - ينظر مثلا مقال "البلاغة
والأسلوبية" – سعيد العوادي – مجلة جذور- العدد 23 – السنة 9- مارس 2006م-
النادي الأدبي الثقافي بجدة – السعودية.
[6]-
يمكن الاستئناس بكتاب "التناص الشعري، قراءة أخرى لقضية السرقات- مصطفى
السعدني – منشأة المعارف مصر – ط 1- 1991م.
[7] - في أصول الحوار وتجديد علم الكلام – د. طه
عبد الرحمن –المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع- ط1-1987م-ص41.
[10]-
م. نفسه، ص: ص: 59-66.
[11]-
م. نفسه، ص: ص: 55-56.
[12]-
نجد عصورا أدبية بأكملها تستجيب فيها الإنتاجات الإبداعية اللغوية وغير اللغوية
للمنازع الحضارية، مثل العصر الذي وسم بالانحطاط. (مع ما يحتاج إليه هذا الحكم من
مراجعة)، والعصر المريني بالمغرب، الذي شهد شيوع الزخارف والنقوش، والعناية بنسخ الكتب وزخرفتها والاهتمام بالنحت والزليج،
وتعلق الشعراء بالمزاوجة بين الشعر والتشكيل في تناغم بين السمعي والبصري. وهذا ما
يجعل من الإبداع معادلا جماليا للتوجهات السائدة، ووجها من وجوه الحضارة، ودليلا
من دلائل انسجام الإنسان والكون.
[13]-
الإنسان وانسجام الكون (سميائيات الحكي
الشعبي)، محمد حجو- الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت (لبنان) / منشورات
الاختلاف –الجزائر/ دار الأمان - الرباط
(المغرب) –ط1- 2012م – ص: 269.
[15]-
م. نفسه، ص: 16.
[16]-
م. نفسه، ص: 16.
[17]-
حركية البديع- تصدير د. محمد زهير، ص: 13.
[18] - تطغى هذه الإحالات على الكتاب، وعلى كل
الكتب إجمالا لأنها تحدد صفحات النصوص المستشهد بها في المتن.
[19] - ينظر مثلا: هامش 4 ص: 36 + هامش 1 ص: 47 +
هامش 4 ص: 72+ هامش 1 ص: 76 + هامش 4 ص: 171 + هامش 2 ص: 255 + هامش 3 ص: 257.
[20].
ينظر مثلا: هامش 1 ص: 29 + هامش 1 ص: 39 + هامش 3 ص: 73 + هامش 4 ص: 82.
[23] - ينظر مثلا: هامش 1 ص: 48 + هامش 3 ص: 50 +
هامش 1 ص: 51+ هامش 5 ص: 67+ هامش 2 ص: 73
+ هامش 4 ص:151+ هامش 1 ص: 263+هامش 4 ص: 306.
[25] - ينظر مثلا: هامش 4 ص: 38 + هامش 4 ص: 94 +
هامش 2 ص: 107+ هامش 1ص 262 + هامش 3 ص: 297.
بالإضافة إلى هذه
التوجيهات المثبتة في الهوامش، فإن د. سعيد العوادي يشير إلى بعض الآفاق البكر في
متن البحث أيضا، من قبيل قوله" غير أن هذا النقد الثاوي في القصائد الشعرية
لم يحفل به الخطاب النقدي العربي القديم، مما يرشحه للدخول في "النقد
المقموع" في الثقافة العربية والذي مازلنا نحتاج فيه إلى دراسات معمقة
لاستجلاء طبيعته الملتبسة." ص: 58. دون نسيان الطابع الاستفهامي الذي يغلف
البحث برمته.
[26] - البيان والتبيين – أبو عمرو بن بحر
الجاحظ-تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون- ط3 -1968م –ج1 –ص:271.
[31] - يمكن الرجوع إلى الصفحات: 105 -108 -112 –
116 -137 -138 – 174 -178- 179 – 197 -203 -225 -238 -239- 240- 241 -242 – 243
-244 -262.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق